ربما يكون في العنوان استعارة من عنوان إحدى الروايات المصرية، لكن المقصود مختلف جدّاً، ومستعارٌ من وصف الأرض التي لا بنيان عليها ولا شجر بأنها أرض (عراء). فالمدينة -إذن- هي أرض معمورة -
أي مكسوّةٌ بالبنيان، كما يكسو الثوب الجسد العاري، فيستره. ورد في صحيفة الحياة (بتاريخ 4-9-1435هـ) نقلاً عن مصدر بوزارة الشؤون البلدية والقروية أن مساحة الأراضي المستخدمة في المملكة- سكنيا وتجاريا وصناعيا وزراعيا - تبلغ حوالي (41) مليار متر مربع، بينما تبلغ الأراضي البيضاء (180) مليار متر مربع؛ أي أربعة أضعاف مساحة الأراضي المستخدمة. وفي السياق الذي نحن بصدده فإن القضية الأهم هي الأراضي البيضاء الواقعة ضمن النطاق العمراني في داخل المدن. وعلى سبيل المثال فإن مساحة النطاق العمراني الثاني في مدينة الرياض عام 2009 - كما ذكر الأستاذ فادي العجاجي (الرياض الاقتصادي في 26-9-1433هـ)- بلغت (2435) كيلاً مربعا، لكن المستغل منها لا يتجاوز (41%). فكأن أكثر من نصف مدينة الرياض عارٍ من العمران ! مدننا تنمو سريعا لأن سكانها يكثرون سريعا أيضا، وكلٌّ منهم يحتاج لسكنٍ يؤويه، وخدمات توصِلُ إلى بيته ضرورات العيش التي لا يستطيع جلبها بنفسه كالماء والكهرباء والهاتف والصرف الصحي- إن وجد- وضرورات أخرى لا تصل إلى البيت، ولكن لا يجب أن تبعد كثيرا عنه - مثل المسجد والمدرسة والمركز الصحي والبقالة...إلخ. وعلى كل هذه الخدمات تنطبق معادلتان معلومتان بالضرورة، وعلى درجة كبيرة من البساطة والوضوح:
الأولى أنه بالنسبة للخدمات الممدّدة تكون التكلفة أعلى والإنجاز أصعب والجدوى أقل كلما بعد السكن وانتثرت المساكن فرادى. وليس هذا مما يهمّ تجار العقار الذين يحتكرون الأراضي ويرفعون أسعارها، فيُحجِم عنها أصحاب الحاجات والمستثمرون ويبحثون عن الأراضي في برّ المدينة، حيث تعرض بأسعار منخفضة في أول الأمر، إلى أن تصلها الخدمات فترتفع الأسعار أضعافاً مضاعفة.
المعادلة الثانية: أنه مع الكثافة السكانية في أي موقع ما داخل المدينة تعظم المنفعة من أي مرفق خدمات يؤسّس في ذلك الموقع، سواء كان مسجدا جامعا أو مدرسة أو مرفقا صحيا أو مشروعا تجاريا أو محطة للنقل العام أو مركز خدمات حكومية أخرى. لكن الأراضي البيضاء تطرد الكثافة السكانية والتقارب والجوار والانتفاع المشترك بين الأحياء السكنية، وتضطر بعض الجهات إلى وضع مرافقها في مواقع بعيدة أو غير مناسبة. لذلك يبدو منطقياً أن مشروع مجمع سكني يستوعب عدداً كبيراً من السكان في موقع مناسب داخل النطاق العمراني، وتقرّه وزارة الإسكان والبلدية، لا يقلّ ضرورة ولا أهمية عن شقّ شارع رئيسي أو مسار قطار أو إنشاء مرفق حكومي حيوي تنزع بسببه الملكيات. لكن نزع الملكيات ليس حلّاً مثالياً، وإنما هو اضطراري لا يجب اللجوء إليه إن أمكن الوصول إلى حلول أخرى مجدية تحقق المصلحة العامة، وتنهي المشكلات التي تتفاقم باحتكار الأراضي البيضاء - كمشكلة السكن ومشكلة العثور على أراضٍ لمرافق الخدمات العامة.
- إن من هذه الأراضي جزءاً يسيراً تملكه الدولة (أملاك الدولة)، بعضه مخصص لغرض محدد - كمستشفى أو منتزه - وبعض آخر أراضي منح، أو لأغراض أخرى. ولكن أكثرها يظل غير مستخدم لسنوات طويلة؛ والصحيح هو الإسراع باعتماد وإنشاء المرفق لما خُصّص له، أو استثمار الأرض بأي طريقة مناسبة - كمجمعٍ سكني مثلاً.
- ولكن الجزء الأعظم من الأراضى البيضاء يملكه القطاع الخاص، وبعضه مطوّر للاستخدام العام - أي للشوارع والمرافق العامة وتمديدات الخدمات - ويتحمل تكاليف تطويره مالك الأرض، لكن أسعاره مرتفعة، وقد يحبس المالك الأرض أو يغالي في سعرها، فتصبح صعبة المنال على أصحاب الحاجة. ومن جهة أخرى قد تظل المساحات المخصصة للمرفق العام غير مستخدمة، إما لعدم وجود حاجة له، أو لعدم وجود اعتماد مالي لإنشائه. والصحيح هو أن تسارع الجهة صاحبة المرفق إلى إنشاء مشروعها عليه، أو تتنازل عن حقها فيه للمالك الأصلي ليتصرّف فيه.
على أن أكثر الأراضي البيضاء العائدة للقطاع الخاص غير مطوّرة - خام. وهم يتمسّكون بها من قبيل الاحتكار، إمّا ليرتفع السعرمستفيدين من ميزة الموقع وشدة الطلب، أو لعدم وجود الدافع لبيعها لأسباب مختلفة. ومن بين الدوافع توجيه الطلب على الأراضي الواقعة في أطراف المدينة - أو ربما خارج النطاق العمراني؛ وكثير منها كان في الأصل قِطعاً منحت لمواطنين، باعوها لعدم قابليتها للسكنى وقت المنح بأسعار زهيدة على تجار العقار. وفي هذا الصدد يقترح الأستاذ راشد الفوزان (الرياض الاقتصادي في 11-5-1434هـ) إمّا أن يمنح المواطن أرضاً مخدّمة، أو (أن يوقف منح الأراضي ويمنح المواطن عقار- منزل أو شقة - كمنحة توازي منحة الأرض بمتوسط معيّن مالياً). وعلى ما أظن تسير وزارة الإسكان والبلديات في هذا الاتجاه الأخير. إلّا أن ذلك يتطلب أن تكون الأراضي المعروضة للبيع متاحة وبتكلفة عادلة. وفي وقت يُجْمِع فيه المختصون وكذلك المسؤولون على شدّة الحاجة لحلّ مشكلة السكن، لأن أكثر من نصف المواطنين يسكنون في مساكن مستأجرة، وتقضم أجرة السكن أكثر من 40% من دخل الأسرة المتوسطة، فإن الحلول التي طرحت لتوفير السكن والأراضي السكنية متعددة، وترمي إلى تحسين العرض وخفض السعر وكسر الاحتكار، ومحو الانطباع السائد بأن ما تغزله الدولة -رعاها الله - ينقضه بعض المضاربين والمحتكرين من تجار العقار. وحيث إن هيئة كبار العلماء تبحث موضوع الأراضي البيضاء، فإن الجميع يتطلعون إلى قرار يقدِّم مصلحة المحتاجين إلى سكن يستقرون فيه على مصلحة القابضين على أرض بيضاء.