دخلت البارحة صالة المغادرة في بوسطن فوجدت ازدحاماً شديداً، وقد شُغلت الكراسي، والمسافرون يراوحون بين أرجلهم تمللا من الوقوف. وقد شد انتباهي وجود كراسي شاغرة. وأنا أؤمن بأن الفرص لا تُرمى على قارعة الطريق دون ان تُلتقط في لمحة بصر. وكذلك تفسير ثقافة القطيع والتبعية، لم تفسر لي سبب ترك المسافرين لهذه الكراسي شاغرة بوضوحها. وبعد أن جلست مسترخياً تأملت حولي، فلم ألحظ إلا أن هناك سيدتين من البشرة السوداء كانتا قبلي وما زالتا يجلسان بقربي. فلم يفسر هذا لي شيئاً. فرئيس البلاد أسود والسود مرعبون عند كثير من البيض في أمريكا. فبدأت استكشف سلوك الناس الشاذ عن سبب ترك هذه الكراسي شاغرة. فأخذت أولاً أشير إلى الكراسي الشاغرة لمن أراه يبحث عن كرسي. فمنهم من يتجاهلني ومنهم من يتقدم وابتسامته تسبقه ثم هي تغيب فجأة ويعود متقهقراً. فقلت لا والله، حتى أقوم فأسألهم عن السبب. وحيث إنني ضعيف الملاحظة جداً في جانب الملابس والقصات ونحوها ما لم تتعد المألوف، فلم ألحظ ملابس السيدتين إلا لحظة قيامي، فعرفت السبب ففهمت السر. ومع وصولي للديار شد انتباهي أمر معاكس تماماً للسلوك الذي شهدته في مطار بوسطن فكان هذا المقال.
فقد كانت السيدتان ترتديان ملابس تحمل روح الزي الإفريقي. فالناس تتجنبهم خوفاً من حملهم لفيروس إيبولا. وقد عُزِلت اجتماعياً، الجالية الإفريقية عموماً في تكساس بعد إصابة أحدهم بالفيروس. فيُعطى الإفريقي إجازة مدفوعة، ويمتنع البيض عن إرسال أولادهم للمدارس التي فيها أغلبية إفريقية. وانتقل الإعلام الأمريكي من مرحلة الانتقاد للسلوك العنصري، إلى مرحلة النقاش في الجدوى من هذا العزل.
فالإعلام الأمريكي ووزارة الصحة الأمريكية والكنائس ورجال الدين والمستشفيات والمفكرون ونشطاء المجتمع في الفترة التي قضيتها أخيراً هناك، لا حديث لهم إلا عن مرض إيبولا وعن طرق الوقاية منه وعن أعراضه وكيفية منعه. وأعلن أوباما أخيراً أن إيبولا هو الخطر الأول على أمريكا الآن، وأعلن أن أمريكا تخوض حرباً ضده. وظهرت المطالبات الجادة بمنع الرحلات والسفر لوسط إفريقيا ولإجراءات عزل سفر عالمية وإجراءات ضد الدول المتهاونة إلى آخر ذلك. واتهم معارضون الرئيس الأمريكي الأسود بأن رفضه للحظر الدولي العازل هو لاعتقاده بأن أمريكا يجب ان تُبتلى بإيبولا انتقاماً للعبودية. وقادت فوكس نيوز حملة سؤال الرئيس إن كان حقاً إيبولا هو الخطر الأول وإن أمريكا تخوض حرباً ضده فلم لا يقوم بحظر السفر. ومن يضمن بألا يقوم أعضاء من داعش بتمريض أنفسهم ثم الدخول لأمريكا لنشر الوباء فيها.
كل ما سبق يحكي مستوى الجدية الذي قد يكون وصل إلى درجة الهوس، الذي يتعامل الإعلام وأقسام الصحة مع الوباء. ولو فتحت الصفحة الإلكترونية لوزارة الصحة الأمريكية فأول ما يظهر لك رسمة مخيفة عن فيروس إيبولا ثم وصفه والوقاية منه إلى آخر ذلك، وكأن الوباء قد ضرب البلاد وما هي إلا إصابة واحدة لإفريقي عاد من موطن الوباء.
وسبب هذا التخوف والاحتياطيات هو انفتاحية أمريكا على العالم الخارجي. فماذا عن انفتاحيتنا ونحن نعيش أكبر تجمع إنساني من حيث احتمالية تفشي فيروس إيبولا فيه نظراً للازدحام ولمناطق الحجاج المختلفة وللتواكل السلبي. ووزارة الصحة ليس لديها إلا التصريحات بخلو الحج من الأوبئة والحركات الإعلامية دون أن تتخذ إجراءات التوعية لتقليل المخاطر بالإصابة والانتشار بعد ذلك لا سمح الله. وبإذن الواحد الأحد الحافظ أنه قد اطلع علينا فرحم ضعفنا وشيبنا وعبادتنا فوقانا المرض وصدق تفاؤل وزارة الصحة.
ولكن التواكل لا ينفي الأخذ بالأسباب. ففيروس إيبولا له حضانة ثلاثة أسابيع وهذا يعرفه أي شخص استمع للإعلام الأمريكي ساعة من ليل أو نهار. وهو وإن كان المُلام وزارة الصحة فهي من تدق الجرس في أذن الإعلام، إلا أن العالم قد تعولم. فصحافتنا وإعلامنا وقنواتنا لا تريد المخاطرة بتحذير الناس وتوعيتهم بالأخذ بالأسباب ثم لا يصيبنا مرض فتصبح الجهة الإعلامية المبادرة بتحمل المسؤولية الإنسانية والوطنية والإعلامية، محط سخرية من المجتمع. فروح المبادرة بالتوعية في الأمور المسكوت عنها قد مات اجتماعياً قبل أن تموت إعلامياً. فإن كانت وزارة الصحة لم تحرك ساكناً في هذا الباب، فالله المستعان.
وقد يُقال إن هذا السكوت منعاً لانتشار الذعر بين الحجيج. فأقول وماذا هي عواقب ذلك، قلة الزحام في الحج والمتسللون! وبالمقابل ما هي العواقب السياسية والصحية والاقتصادية لو ظهر الوباء.
أم أن كلفة سخرية المجتمع هي السبب في إجراءات وزارة الصحة السلبية. فقد سخر المجتمع من جهود وزارة الصحة قبل سنوات عندما اتخذت احتياطات عالية ضد وباء الإنفلونزا ولم يحدث شيء.
فيا وزارة الصحة المخاطرة في الأوبئة والصحة ليست كالمخاطرة في الربح والخسارة التجارية. فعلى الأقل فياليتكم تستدركون بعض ما فات فتبدؤون بالتوعية ولو على الأقل التجهيز النفسي للعامل البشري في المستشفيات والمصحات. فبرود الوزارة وتجاهلها لخطورة المرض سينعكس حتماً على العاملين في المجال الصحي، فيتهاونون في جدية التعامل مع من يشتبه فيه. فإن هناك احتمالية كبيرة بأن يكون المرض محمولاً مع بعض الحجاج لا سمح الله، وهو لن يظهر إلا بعد ثلاثة أسابيع وسيكون الانتشار أوسع بسبب استدراك الإهمال التوعوي الذي حصل. فضلاً عن أن الكلفة على البلاد ستكون كبيرة وأكبر من تخمين حساباتها في وزارة الصحة.