يتعامل المواطن السعودي مع الحياة كجسر قليل الأهمية بين ضفتين، يعبر فوقه ولا يهتم بتفاصيله، مادته متانته، صلاحيته، حاجته إلى الصيانة والإضافة والتجديد، إلى آخر المهمات التي تحرص عليها الشعوب الأخرى أثناء عبورها من الضفة الأولى إلى الضفة الأخرى فوق نفس الجسر الفاصل بين الحياة والموت.
خلال الأيام القليلة الماضية حضرت مواراة الثرى لصديقين عزيزين في مقبرة النسيم، وكان الحضور كثيفا ً والجنائز عديدة. اختلط المشيعون ببعضهم في فوضى مخجلة لا تليق بالمناسبة ولا بحرمة الموتى. كل واحد يسأل الآخر جنازة من هذه، محاولا ً التعرف على مكان التجمع حول القبر الذي سوف يدفن فيه قريبه أو صديقه. لم تكن هناك لوحات مرئية تعرف بأسماء المتوفين ولا دليلا ً بالأماكن المخصصة لدفنهم، وأكوام التراب والحصى وبقايا اللبن تملأ المكان.
لم تكن تلك الفوضى لتوحي بدلالات مقنعة على البساطة والزهد أو تجنب الابتداع بقدر ما تدل على غياب التفكير في التعامل مع الموقف وحرمة المكان وظروف الحضور الصحية والنفسية. مركبات الأحياء الوافدين إلى داخل المقبرة كانت بالمئات، وأكثرها من أحدث الماركات وأشدها رفاهية، وثرثرات الناس كانت تدور حول أمور دنيوية لا علاقة لها برهبة الموت ولا الدار الآخرى.
تطوع أحدهم، مأجورا ً إن شاء الله، بتوزيع أقراص ممغنطة على الناس فيها مواعظ عن الحياة والموت والدنيا والآخرة، لكن المتطوع لم يكن يوزع مواعظ اجتهد في كتابتها بخط اليد على الورق زيادة في الاحتساب، بل كانت مسجلة بأحدث التقنيات المريحة على أقراص ممغنطة يتطلب الاستماع لها جهازا ً التكرونيا ً مستورداً، علما ً أن تجارة الإلكترونيات هي أكثر التجارات الدنيوية ربحية وترويجاً. الإيحاء بالتزهيد في الدنيا بهذه الطريقة لم يكن مقنعاً لانعدام التناسب بين الهدف والوسيلة، بقدر ما كان يمثل اجتهاداً شخصياً للتزهيد في الدنيا ولكن بأحدث إنجازاتها، وذلك يشبه كثيراً طريقة الوصول إلى المقبرة في سيارة مكيفة يزيد سعرها عن ربع مليون ريال.
بالتأكيد لم يكن إدخال القليل من التنظيم وإضافة بعض الضروريات لإراحة العجزة والمرضى والمرهقين من أقارب المتوفين لتعطي الانطباع بالابتداع أو حب الدنيا، أكثر مما يفعله توزيع المواعظ على أقراص ممغنطة أو الدخول إلى الساحة الداخلية للمقبرة في سيارات ألمانية ويابانية تتوفر فيها أقصى درجات الرفاهية الدنيوية.
المسألة فيها تكاذب اجتماعي واضح. حرمان المنهكين المرهقين من أقارب الموتى والعجزة والمرضى والكبار بين المعزين من ميزات التنظيم وتوفير الظل ونظافة المكان، ليس له علاقة بالزهد ومحاربة الابتداع، وإنما هو تعبير عن قدرة التزمت وجفاف الطباع على إلغاء أبسط الضروريات التي يجب توفيرها بالمقابر.
الطريقة التي نتعامل بها مع الموت والدفن والمقابر ليست هي الوحيدة التي تعمها الفوضى ويغيب عنها التفكير. واضح أن أصل هذه الفوضى في المقابر ينبع من الحجر على استعمال العقل وتبديع مجرد التفكير في تحسين الجسر الدنيوي الذي نعبر فوقه نحو الآخرة.
للأسف هناك امتدادات لتأثير وسيطرة هذه العقلية التحجيرية التبديعية، نتعايش معها في الفوضى أمام المساجد وفي التعامل مع الشارع والرصيف والمرافق العامة، بما يشبه كثيرا ً نفس الفوضى السائدة في المقابر. هذا التعامل مع الحياة الدنيا يختلف تماما ً عندما نكون داخل البيوت والقصور، حيث تسود مفاهيم البحث عن الرفاهية والراحة والاستمتاع بالحياة داخل الجدران الأربعة.
الحضور إلى المقبرة يحدث بالمركبة الفارهة المكيفة، والموعظة توزع على قرص ممغنط، أما مراسم الدفن فلها الفوضى والغبار والتدافع والإرهاق المتبادل. للشارع والرصيف والمرافق العامة نفس ما يحدث حول القبور، ولكن للمنازل والقصور والمساجد مواصفات الرفاهية في المركبات الحديثة المكيفة.
يا إلهي، كم هو طويل نفق التخلف الكاذب الذي حبسنا أنفسنا بداخله.