حدثني أبوزياد الشاعر الأستاذ عبدالرحمن الهقاص, قال: في يوم من تلك الأيام الماضية الجميلة ركب الشاعر المعروف المرحوم عبدالعزيز البادي (ت 1402) إحدى سيارات الأجرة مع بعض أصدقائه إلى الرياض, وكانت السيارة من نوع فورد (بلاكاش) باص متوسط, ومزينة جوانبها بنوع من الخشب المشبه لخشب البلاكاش, وربما كان هذا السبب في تسميتها في نجد..
وذكر أبو زياد أن أجرة الراكب في سيارة البلاكاش إلى الرياض كانت في ذلك الوقت عشرين ريالا للراكب الواحد في أي مرتبة من مراتب البلاكاش ما عدا الأخيرة, فإن أجرة الركوب فيها عشرة ريالات فقط, قلت: ربما كانت الأولى متميزة لكن ما بعدها إلى الأخيرة متماثل تقريبا, بل ربما كانت الأخيرة أميز مما أمامها إلا إذا كانت كراسيها أقل راحة!
كان عبدالعزيز البادي- رحمه الله- إلى جانب تفوقه في شعر القلطة (المحاورة) قائد مجلس, فهو حسن الحديث, ضخم الخبرة, جيد العرض, وكان له صوت جميل.. ركب- رحمه الله- في المرتبة الأمامية من البلاكاش, وطول الطريق كان يقود دفة الحديث, فطورا (يسولف), وطورا يغني, والحديث والغناء كانا مطلوبين للمسافرين لتزجية وقت الرحلة الطويل, ولذلك كان سائقو الشاحنات في الماضي يرافق كل واحد منهم مساعد يسمونه (المعاون) ولعل من أهم الصفات التي يجب أن تتوافر في المعاون هي أن يكون متحدثا وذا صوت جميل, ليسلي السائق..
أسرت سواليف أبي حمد جميع من كانوا في السيارة وأمتعتهم, وكان خلفه نساء من علية القوم وأغنيائهم, ولهذا كن طوال الرحلة يدسسن له مما يحملن من (الكليجا) و(اليبيس) تعبيرا منهن عن امتنانهن لأحاديثه الطلية التي آنستهن مشقة الطريق, واليبيس هو التمر اليابس, وكان في الماضي يقوم بذات الدورالذي تقوم به الشوكولاته في أيامنا هذه, ويزيد عليها بأنه كان زادا وحلوى في الوقت نفسه.. كانت هذه الهبات الخفية التي كانت تتابع على أبي حمد من هاتيكم النسوة, من غير أن يعلم بها الركاب الآخرون.. قد أبهجته, فقال مغنيا:
مرتبة قدّام لو هي بأربعين
أرخصي يا أم الكيجا واليبيس!
أي أن ركوب المرتبة الأمامية رخيص القيمة حتى لوكان مضاعفا, لأنه يجلب هذه الخيرات. والحق أن الخيرات جلبتها أحاديثه الجميلة لا المرتبة!
وقال أبو زياد حدثني المرحوم صالح السعلو, الذي توفي قبل عدة أعوام, وهو- رحمه الله- رجل عمل فترة طويلة في المزارع.. قال: كان علي العثمان البقمي- رحمه الله- (توفي قبل ما يقارب الثمانين عاما) يسني في مزرعة من مزارع شمال عنيزة قرب الجناح, وكان بجوار المزرعة التي يعمل فيها مزرعة لأحد العواهلة, وكانت زوجة العوهلي امرأة قوية الشخصية, ويبدو أنها كانت هي صاحبة المال.. وفي يوم من الأيام أُعجب العوهلي هذا ببنت لأحد العمال الذي يعملون في مزرعته, فتزوجها سرا خوفا من زوجته القوية (مسيار), وبنى لها عشة قرب مساكن عماله وكلهم من أهل البلد طبعا, لأن العمالة في تلك الأيام وطنية 100%, وصار يختلف إليها بين فينة وأخرى من غير أن يعلم أحد من أهل بيته.. فقال علي البقمي ساخرا:
العوهلي ناسب العمال وسادته غمر دقسية
والغمر, بكسر الغين: ما يعادل القبضة من النباتات ذوات السيقان الدقيقة, والدقسيّة: نوع من علف الماشية, نبات له أوراق خضراء دقيقة طويلة, لا يزال مستعملا بهذا الاسم في عنيزة.
وعبارة (ناسب العمال) ترسم ابتسامة تفشل كل المحاولات في صدها, وهي تمثل فكرة البيت, وعند إكمال البيت تتفجر الطرفة لتتحول الابتسامة إلى ضحكة مدوية, فإذا كانت الوسادة (غمر دقسية) فإن الفراش حتما لن يكون غير شحنة من التبن!
إن هذا البيت الساخر يقدم هذا السيد الذي ضحى بـ(بريستيجه) ورضي لنفسه من أجل هذه النزوة المفاجئة والصبوة غير المتوقعة أن يعيش بعض لحظات حياته في جو سرّي بائس تحت سماء تمطر الخوف والرعب من انكشاف أمره.. يقدمه بصورة كاريكاتورية مضحكة بل قل مشهد كوميدي متقن قوامه ست كلمات فقط!