يقول الحسن البصري رحمه الله: (أيها الإنسان إنما أنت أيام إذا ذهب يومك ذهب بعضك..)، لنحاسب أنفسنا دائماً في كل يوم وساعة ودقيقة: ماذا عملنا ولماذا قصرنا وأذنبنا؟, ولنعد إلى الله تعالى ونتوب ونؤوب إليه الذي يفرح بتوبتنا وعودتنا إليه جل وعلا ونحن المحتاجون إليه ولا شك..!!! عام هجري ينقضي وآخر يحل علينا بعد أن مضت أعوام وسنون مرت مرور الكرام، كأنها أيام بل وسويعات قليلة جاءت ثم رحلت وذهبت مسرعة مثل البرق الخاطف..!! إنّ لفضل صيام شهر محرم الذي هو في بداية العام الهجري أجر عظيم، كما حث على ذلك الرسول صلى الله عليه وسلم بأنه يكفِّر السنة الماضية.., أما الهجرة النبوية الشريفة على صاحبها أفضل الصلاة والسلام، فلقد ذكرت كتب السير والتاريخ الصحيحة: بأنه مكث عليه الصلاة والسلام ثلاثة عشر عاماً بمكة يدعو إلى لا إله إلا الله. سنوات طويلة من التعذيب والإيذاء.. والتشريد والابتلاء. وبعد اشتداد الأذى ينام عليه الصلاة والسلام في ليلة من الليالي على فراشه فيرى دار الهجرة وإذا هي أرض ذات نخل بين لابتين.. إنها طيبة الطيبة. ومن مكة تنطلق ركائب المهاجرين ملبيةً نداء ربها.. مهاجرةً بدينها.. مخلفةً وراءها ديارها وأموالها. ويهم أبو بكر بالهجرة فيستوقفه الرسول صلى الله عليه وسلم، ويقول: لا تعجل لعل الله يجعل لك صاحباً.
وعلى الجانب الآخر تشعر قريش بالخطر الذي يهدد كيانها بهجرته عليه الصلاة والسلام إلى المدينة، فتعقد مؤتمراً عاجلاً في دار الندوة (برلمان مكة) للقضاء على محمد قبل فوات الأوان. ويحضر الشيطان معهم على صورة شيخ نجدي قال بعضهم: احبسوه في الحديد حتى يموت، وقال بعضهم: أخرجوه وانفوه من البلاد، وبعد أن قوبل هذان الاقتراحان بالرفض، تقدم فرعون هذه الأمة أبو جهل برأي خبيث ماكر فقال: أرى أن نأخذ من كل قبيلة فتىً شاباً جليداً نسيباً، ثم نعطي كل فتىً منهم سيفاً صارماً، فيضربوا محمداً ضربة واحدة فيقتلوه فيتفرق دمه في القبائل. فأعجب القوم بهذا الرأي حتى إن الشيطان الذي لم يستطع الإتيان بمثله أيده وقال: القول ما قال الرجل هذا الرأي لا أرى غيره. ووافق البرلمان على هذا القرار الغاشم بالإجماع وبدأوا في التنفيذ. {وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُواْ لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللّهُ وَاللّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ} ينزل جبريل فيخبر النبي صلى الله عليه وسلم بتلك المؤامرة، ويقول: يا محمد لا تبِت في فراشك الليلة. وفي بيت أبي بكر كان أبو بكر رضي الله عنه جالساً مع أهله في الظهيرة، إذ أقبل النبي عليه الصلاة والسلام متقنعاً مغطياً رأسه، ففزع أبو بكر لأنه صلى الله عليه وسلم لم يكن يأتيهم في تلك الساعة.. يدخل النبي عليه الصلاة والسلام فيقول: يا أبا بكر أخرج من عندك. قال أبو بكر رضي الله عنه وأرضاه: إنما هم أهلك يا رسول الله. قال: فإني قد أذن لي في الخروج. قال أبو بكر رضي الله عنه: الصحبة بأبي أنت يا رسول الله. فقال: نعم. فبكى أبو بكر رضي الله عنه ولسان حاله يقول:
طفح السرور علي حتى إنني
من عظم ما قد سرني أبكاني
روي عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: فما شعرت أنّ أحداً يبكي من الفرح حتى رأيت أبا بكر يبكي يومئذ. قال أبو بكر رضي الله عنه: فخذ بأبي يا رسول الله إحدى راحلتي هاتين. فقال له صلى الله عليه وسلم: بالثمن. يعود صلى الله عليه وسلم إلى بيته ويعرّف علياً بالأمانات التي عنده ليؤديها إلى أهلها. وفي ظلمة الليل يجتمع المجرمون ويطوقون منزله عليه الصلاة والسلام، وفي هذه الساعة الحرجة يأمر النبي صلى الله عليه وسلم علياً أن يبيت في فراشه وأن يغطي رأسه ببرده الحضرمي. يفتح النبي عليه الصلاة والسلام الباب.. يخترق صفوف المجرمين.. يمشي بين سيوفهم.. وهم مع هذا لا يرونه، ثم يأخذ من تراب الأرض ويذره على رؤوسهم الواحد تلو الآخر ثم يمضي بحفظ الله ورعايته.