كنا سوياً في مؤتمر طبي في فيينا، وبعد يوم جهيد تواعدنا على العشاء ثم اللقاء في اليوم التالي في فسحة بين المحاضرات العديدة، لكنني لم أره ولم يرد على المكالمات والرسائل المتكررة، ولم أكن اعلم عنوان سكنه الجديد. وفي مساء ذلك اليوم أتتني مكالمة من السعودية من ابنه هيثم بصوت متهدج متسائلا عما حدث لأبيه. قلت له إنني بانتظار مكالمة منه لنتعشى سويا. قال: الوالد يطلبك الحل. تلعثمت وانعقد لساني ولم أستطع تصديق ذلك، لولا انه أكد أن الخبر أتاه من السفارة السعودية في فيينا وانه توفي بالمستشفى إثر نوبة قلبية.
يا الله ما هذا الخبر الصاعق؟! لقد كنا سويا في الأمس ولم يبد عليه أي عرض مقلق. وكل ما كان في الأمر انه بين حين وآخر - على غير عادته - يتحسس الجهة اليسرى من صدره فأنظر إليه متسائلاً فيقول مبتسماً في لهجته الحائلية المحببة: أبداً يبو طارق.... غازاي.
علاقتنا كانت وطيدة أثناء الدراسة في ألمانيا ثم امتدت إلى صداقة خالصة في مرحلة التخصص خاصة مع وجود العوائل والاتصالات المتبادلة. ثم تعمقت الصداقة أثناء المرحلة العملية في المملكة حيث سبقني بسنة إلى الوطن والتحق بمستشفى الرياض المركزي وأسس قسم مناظير الجهاز الهضمي من العدم. وقد جاهد - يرحمه الله - في ذلك كثيرا حتى استتب الأمر في ذلك القسم الوليد. ثم شاركته في ذلك بعد التحاقي بالعمل في هذا الصرح الطبي العظيم حتى أصبح ذلك القسم من أحدث وأكبر أقسام المناظير وقتها في المملكة. بعد ذلك أصبح رئيسا للقسم الباطني ثم مديرا للمستشفى ثم مديرا عاما للشؤون الصحية بمنطقة الرياض. ولم يخل الجو - رغم الصداقة الحقة - من بعض المناوشات الخفيفة بيننا عندما كنت مديرا للمستشفى المركزي، حيث كنت أحرجه - رغم الإمكانيات المحدودة - في كثرة مطالباتي للمستشفى وهو في دوره كان عليه إضافة إلى هذا المستشفى تغطية منطقة الرياض بكاملها من عفيف إلى وادي الدواسر ومن الزلفي والمجمعة وشقراء إلى الدوادمي والقويعية، إضافة إلى المدن والقرى العديدة الأخرى.
اشهد لوجه الله انه كان يرعى العدالة في تعاملاته سواء مع العاملين أو مع متطلبات المناطق. ففي يوم من الأيام وصل بعض الأطباء والفنيين من المتعاقدين الجدد وألححت عليه - بحكم الحاجة وبحكم الصداقة - بمعاناة مستشفى «الشميسي» وأضفت إليه مستشفى الزلفي (حيث كان الأهالي ينقلون لي ذلك) من النقص الشديد في الكوادر الفنية. فأجاب - يرحمه الله - بان حاجة وادي الدواسر وعفيف والدوادمي أكثر ومعاناتهم أكبر وأنا مسؤول أمام الله عن الجميع. ولم يعطني شيئا غير الاعتذار ورجعت بخفي حنين، لكنني واللهِ لم ألمه على ذلك لمعرفتي بصدقه وإخلاصه.
كان أحيانا - رغم رقة قلبه - يميل إلى الشدة في التعامل ولكنه كان يعطي كل ذي حق حقه، ولم تلعب الوساطات والعلاقات الشخصية دوراً في تعاملاته الإدارية. كان - رفيق الدرب - نظيف اليد والجانب مراعيا في ذلك كله المصلحة العامة، وكان لا يتردد في إبداء وجهة نظره النابعة من صدق وإخلاص وتجربة حتى ولو كانت أحيانا غير مريحة. وكان حريصا على تحسين مستوى الخدمات بواسطة التعليم الطبي المستمر وبواسطة إدخال الأجهزة الطبية الحديثة حسب الإمكانات المتاحة.
بهذه المناسبة أبدى شكري وامتناني للسفير السعودي في النمسا معالي الأستاذ محمد السلوم والقنصل العام الأستاذ غازي الجهني والأستاذ أحمد العنزي وضابط الاتصال إبراهيم السعدان على وقفتهم الكريمة وغير المستغربة نحو تسهيل وتسريع كافة الإجراءات والتي كان معالي السفير يتابعها شخصياً ساعة بساعة.
خدعتني وخدعت نفسك يا أبا احمد. ما كنت تحسه لم يكن «غازاي» (وهي الانتفاخات التي قد تسبب آلاما في الصدر) وإنما كانت مقدمات لذبحة صدرية لم يُفد معها اجتهاد طبيب. لقد كان ذلك أجلك المكتوب. وصدق سبحانه حيث قال: (وما تدري نفس ماذا تكسب غداً وما تدري نفس بأي ارض تموت).
رحمك الله يا أبا احمد وأسكنك فسيح جناته والهم اهلك وخاصة رفيقة دربك أم أحمد وأحمد وهيثم والجوهرة وسارة وأحفادك وأقاربك جميعا وكافة أصدقائك وزملائك ومعارفك ومرضاك الصبر والسلوان. سوف يفقدك الجميع ولكن دعواتهم لك بالرحمة والغفران ستجد إن شاء لله القبول الحسن من الغفور الرحيم.
لله ما أعطى ولله ما أخذ. رضينا بقضاء الله وقدره. إنا لله وإنا إليه راجعون. إلى جنة الخلد يا أبا أحمد.