من يُراقب خطاه أثناء المشي خوفاً من التعثر أو السقوط، لا يستطيع أن يقطع حتى المسافة القصيرة إلا بعناء ومشقة، وكذلك المبدع الذي يضع الناقد الذاتي والجمهور باختلاف مشاربه وميوله وأهوائه على حافة الورقة أثناء الكتابة لتخرج قطعته الأدبية أو قصيدته بلا لون أو طعم أو رائحة، وبالتالي تصبح عملاً بارداً يفتقر إلى التلقائية والانسياب والصدق الفني الذي يُعتبر من أهم عناصر العمل الإبداعي المؤثر.
والمبدع الحقيقي من يستطيع أن يُحيّد المراقب حتى يفرغ من حالة حضور لمعة الإبداع التي لا يستطيع إلا مبدع استبقاءها طويلاً، فالحالة النفسية التي يكون الكاتب فيها مُهيأً للكتابة مقبلاً بكله على ما يعتلج ويحتدم في داخله تتنازعه الصور ويجرفه الخيال والمشاعر إلى عوالم تضج بالدهشة والتوحد مع ذاته الداخلية التي لا يراها غالباً إلا في تلك الحالة من الحضور المزلزل للعمل الأدبي.
وتلك الحالة المبهجة العذبة الرائعة كالسحابة لا تقبل التأطير أو القوالب المسبقة التشكيل، فكما أنها تلقائية التكون هي أيضاً تلقائية الهطول والعطاء، والمبدع الفطن من يترك لسحابته كامل الحرية بالتشكل والعطاء، وبعد الفراغ من الكتابة عليه أن يُحضر المراقب ليعطيها الإذن بالخروج إلى الناس بعد أن يهذب ما يحتاج إلى تهذيب أو تقديم أو حذف أو إضافة، وتأكده التام من عدم وجود بعض الشطحات التي تشوّه العمل الأدبي وتسيء إليه.