لم يعد خافياً على الكل حجم الإنفاق الكبير الذي تنفقه الدولة على قطاع الصحة. ومن المفارقات العجيبة أنه على الرغم من حجم النفقات على هذا القطاع إلا أنه ربما يمثل القطاع الأقل أداء بين القطاعات الخدمية المختلفة، وربما أنه لم يحظ برضى القيادة والمواطنين على حد سواء. وهو بلا شك أمر يثير الدهشة ويرفع علامات استفهام كثيرة. فلقد توفر لهذا القطاع من دعم القيادة وتخصيص الميزانيات مالم يتوفر لغيره. والعاملون في القطاع مواطنون ينتمون إلى نفس الثقافة والمهنية التي ينتمي إليها العاملون في القطاعات الخدمية الأخرى، بل يفترض فيهم أنهم أكثر الطبقات الاجتماعية مهنية بسبب تخصصاتهم المهنية والإنسانية.
والبيئة التي تعمل بها الوزارة هي ذات البيئة التي تعمل بها القطاعات الأخرى، وفي ذات الوقت حظي القطاع بانتقادات لم يحظ بها غيره. والمشكلة التي يعاني منها قطاع الصحة مشكلة أزلية تعود إلى عدة عقود خلت تعاقب خلالها على الوزارة عدة وزراء ومسؤولون ينتمون إلى تخصصات مختلفة وممن يعرفون بأمانتهم وإخلاصهم ووطنيتهم من السابقين والحاليين.. إلا أنه لم يتمكن أي منهم من حل هذا اللغز أعني معضلة تواضع الأداء على الرغم من توفر الإمكانات ودعم القيادة. فلم تتمكن الوزارة من تحقيق تطوير نوعي في القطاع الصحي يعكس ما حظيت به من دعم، وانتقادها يزداد حدة سنة بعد الأخرى.
وعلى الرغم من عمرها المديد لم تتمكن من إنشاء مركز أبحاث متقدم أو مستشفى متميز على غرار مستشفيات الحرس الوطني أو الدفاع أو التخصصي. ويبقى السؤال المهم ما هو السبب وراء تدني مستوى الخدمات الصحية على الرغم من توفر المقومات المشار إلى بعضها أعلاه؟.
أعتقد أن السبب الرئيس يعود إلى خلل في صياغة الأهداف الإستراتيجية للوزارة أصلاً وفي منهج عملها وأن الجهود المبذولة تنصب على الجزئيات لا على إستراتيجيات العمل وسياساته. وبمعنى آخر فإن جهود الوزارة تتركز على تحسين الكفاءة لا الفاعلية والكفاية، وهناك فرق شاسع بين الاثنين فالكفاءة هي عمل الأشياء بطريقة صحيحة بينما الكفاية أو الفاعلية هي عمل الأشياء الصحيحة.
أي أن الخلل يعود إلى أنها تعمل على محاولة أداء عملها بطريقة صحيحة ولكنها لا تعمل الشيء المطلوب أو الصحيح. الملاحظ أنها الوزارة الوحيدة التي تجمع بين وضع السياسات والأنظمة وتنفيذ المهام أي كأنها تجمع بين التشريع والتنظيم والتنفيذ، على خلاف ما تقوم به الأجهزة الخدمية الأخرى كالاتصالات والتجارة والصناعة ومؤسسة النقد... إلخ، كيف نتوقع من وزارة أن تجمع بين إدارة برامج صحية على المستوى الوطني وهي مشغولة بإدارة مستشفى الشميسي أو مركز صحي في منطقة نائية في أقصى جنوب المملكة أو شمالها، وتتابع أداء صيدلياتها ومراكز الطوارئ المتعددة في دولة مترامية الأطراف.
منذ عدة عقود ونحن ننفق بلايين الريالات على علاج مرضانا بالخارج -وهو أمر يحمد للحكومة- ومع ذلك لم تتمكن الوزارة من الإفادة من تلك المراكز العالمية بنقل خبرة أو خدمة أو نظرية أو تجربة. وتنتهي كل حالة بانتهاء حالة المريض المبتعث.. لم تتمكن الوزارة خلال كل هذه الأعوام من الشراكة مع أي من المستشفيات ومراكز الأبحاث العالمية المتقدمة في الجامعات المرموقة وافتتاح فروع لها في هذا البلد المضياف. ماذا لو خصصت المبالغ الكبيرة (وهي كبيرة بكل ما تعني الكلمة) التي تنفق على المرضى ومرافقيهم للعلاج في الخارج لإنشاء مراكز طبية متقدمة وفروع للمنشآت الطبية العملاقة في المملكة؟.. ماذا لو تم الاتفاق مع أحد المراكز الطبية المتقدمة كالبريسبيتيريان أو كليفلاند أو مايو كلينك أو الموميريال أو غيرها؟ في اعتقادي أنها خطوة ستحقق لنا عدة أهداف: نقل الخبرة وتوطين التقنية وعلاج أكبر عدد ممكن من المرضى والتيسير عليهم وتقليل تكاليف العلاج وبناء خبرة وطنية ومراكز بحثية.. أتمنى على الوزارة أن تطلع على تجارب بعض الدول المجاورة في هذا الخصوص. ماذا لوفكرت الوزارة بالتأمين على المواطنين وتخصيص الخدمات وأن يبقى دورها دور المنظم والمساعد والمراقب.
ومن باب الإنصاف فإن الوزارة تقوم بجهود مقدرة ولكن ربما يتطلب الأمر إعادة النظر في الهدف وفي المسار.. وأنا على يقين بأن القائمون على الوزارة لديهم الرغبة والقدرة على أحداث تغيير نوعي بإذن الله، أتمنى على الوزارة أن تركز على بحث الحلول الاستراتيجية بشكل جذري لا على معالجة الجزئيات.. في تقديري أن الموضوع يتطلب إعادة هيكلة جذرية لأهداف الوزارة وسياساتها العملية وآلية أدائها.. وإلا ستستمر المعضلة زيادة في الإنفاق وتراجع في الأداء.
والله الهادي إلى سواء السبيل،،،