عندما يمر اليوم الوطني تتسابق مشاهد التاريخ، وتمر أحداثه في الذاكرة بشكل متسارع، وكأننا في سباق مع الزمن، من أجل الوصول إلى مرحلة الاستقرار التام، وإلى مرحلة اللاعودة إلى مراحل النزاع والقبلية والطائفية، وغيرها من بقايا تاريخ العنف والجوع في جزيرة العرب. وكم نحتاج أن نتوقف قليلاً كل عام أمام أهم المكتسبات الوطنية، وللحديث عن ما بقي من مراحل للوصول إلى المستقبل بدون المرور في مراحل الاضطراب والإرهاب وغيرها من المضادات السلبية لفكرة الوطن في تعريفها المعاصر.
من المؤلم أن في مكونات الوطن مضادات للفكرة الوطنية، فالوطن على سبيل المثال في ثقافة العرب هو المنزل يقيم به، والجمع أوطان، وأوطان الغنم والبقر مرابطها، وأماكنها تأوي إليها. لكن الأخطر من ذلك أن الوطنية لا زالت تُعتبر إشكالية وثنية في الإرث الديني في تاريخ الوطن الحديث، كما أن المجتمعات القبلية كانت ترفض فكرة الحدود الوطنية، لأن المكان بالنسبة إليها ليس له وجود، وإنما جغرافيا متغيرة.
لذلك كانت مرحلة تأسيس وطن في الجزيرة العربية مرحلة خارج سياق التاريخ القديم، وكانت المهمة في غاية الصعوية من أجل إذابة الفوارق بين الطوائف والقبائل المتناحرة، وذلك للوصول إلى وطن للجميع بدون فوارق مذهبية أو عرقية، وما زال هذا الهدف جسر العبور نحو المستقبل، فالوطن الحقيقي هو المجتمع الذي لا تشعر فيه بالإقصاء أو الدونية، كذلك هو مكان العمل الذي تحظى فيه بفرص متكافئة مع الآخرين بغض النظر عن الفوارق الفئوية.
تحققت أهداف كثيرة، وما زال الطريق فسيحاً من أجل تحقيق أهداف أسمى، من أجل الوصول إلى مرحلة المواطن غير الموسوم بالطائفية أو العرقية، والذي يمارس حقوقه بوضوح تحت قانون مكتوب، وأجد ذلك ممكناً، فالنوايا الحسنة ظاهرة، ولكن يجب الاستمرار في ذلك النهج من أجل تجاوز «المنغصات» السلبية ضد فكرة الوطن، ومن أجل الإنصاف حدثت خلال العقد الماضي قفزات كان من أهمها مشروع التعليم العالي.
وأستطيع القول إن مشروع فتح فرص التعليم العالي المتخصص والابتعاث، ثم زيادة عدد الجامعات أعاد إشراقة الأمل في مهمة القضاء على مستقبل الفتن الدينية والقبلية، فآفة الوطن الجهل والتخلف، والتعليم هو مفتاح الخروج من ذلك النفق، وما زال الدور على مراحل التعليم قبل الجامعي من خانة الفئوية، فالوضع الحالي يسمح فقط للمقتدرين في إرسال أبنائهم في المدارس الأهلية المتخصصة بسبب تأخر تطوير التعليم قبل الجامعي في المدارس الرسمية، بالإضافة إلى ندرتها في الأحياء الجديدة.
يعتبر تحدي الاقتصاد هو الأهم بحسب وجهة نظري بعد التعليم، فالدخل الوطني يعتمد إلى اليوم على النفط الخام في أكثر من 90% من موارده، ويأتي ذلك في التأخر في الدخول إلى عصر الصناعة والتكنولوجيا، والهدف من إخراج الوطن من الاعتماد على المصدر الخادم أكثر من الاقتصادي، فإدخال المواطنين في العمل في الشركات الكبري والمصانع يساعد في إخراجهم من التجنيد الأيدولوجي والتطرف الديني، ويظهر ذلك الأثر في عمال أرامكو وسابك، والذي يعتبرون الأقل نسبة في الانخراط في جماعات التطرف الديني.
كذلك من المهم جداًَ أن تبدأ مرحلة المكافأة على قدر الإنتاج والعمل، وأن تتوقف الإعانات المجانية ووسائل تأليف القلوب، وذلك لما لها من تأثيرات سلبية على فكرة الوطن للجميع، فتأسيس ثقافة العمل الوطني تحتم الخروج من نفق المنافع الخاصة إلى احترام الإنتاج والإنجاز وتقديره معنوياً ومادياً، وعدم تخصيصه لفئات عن فئات، وهو ما قد يعني عند البعض أن الوطنية ليس فكرة جامعة، ولكن فئوية غير محمودة.
بالإضافة إلى التعليم والإصلاح الاقتصادي، يأتي الإصلاح الإداري والسياسي الركن الثالث في إضافة عنصر المناعة على مستقبل الوطن، ولا أرى مانعاً في تأسيس مؤسسات تقدم خططاً إستراتيجية للمستقبل، وتقديم نظريات حديثة لتنظيم أكثر فعالية في التغيير والإصلاح الداخلي والسياسة الخارجية، ويكمن التحدي في كيفية إخراج الوطن من تحدي الأيدولجيات الفئوية والمصالح الشخصية.
خلاصة الأمر أن الوطن في سباق مع المضادات السلبية لمستقبل الوطن، وقد نستطيع في مرحلة القوة أن نتغلب عليها قبل فوات الأوان بالوسائل العصرية، وليس فقط الأمنية، ولنا العبرة فيما يحدث في بعض الأوطان العربية، والتي أصبحت مسرحاً للتدخلات الخارجية، ومن ثم فقدان فكرة الوطن الذي يجمع المواطنين تحت سقف واحد، والله على ما أقول شهيد.