قبل عام في «المسكوت عنه» نُشر لي مقال بعنوان «السلفية على فراش الموت». وكان للمقال ردود أفعال مختلفة على قدر اختلاف الناس فيما يُظهرون أو يعتقدون تجاه السلفية والوهابية، (فهناك الكثير ممن يحمل كرها للوهابية والسلفية تدينا أو سياسة ويظهر عكس ذلك استرزاقا أو مكيدة). وقد هدأت بعد ذلك ردود الأفعال لعام من الزمان، ثم عاد المقال للظهور والتداول مجددا هذه الأيام. مما دفعني اليوم لأفصح عن بعض خلفيات المقال. فالمقال لم يأت بشيء جديد في الواقع إلا أنه أفصح عن بعض الأمور التي نعرفها ولكننا ننكرها ولا نريد مواجهتها بالإضافة إلى أنه كُتب بأسلوب أدبي مؤثر. فكل منصف يُسلم بأن دعوة الشيخ رحمه الله كان لها أثر عالمي إيجابي في تصحيح بعض ما دخل على المسلمين من بدع شركية كما كانت لها أثر قوي في تحويل اتجاه البدع عموما - العقائدية والتعبدية - إلى اتجاه السلفية الظاهرية،كما أن الجميع يعلم بأن الدعوة كان لها فضل كبير في توحيد الجزيرة العربية على يد الدولة السعودية الأولى. ولكن المتأمل المتجرد هو من يدرك كذلك بأن الدعوة كان لها دوركبير في سقوط الدولة السعودية الأولى، لبعد منهجها العملي عن إدراك السياسات الخارجية والمتغيرات الحديثة، فما أن احتكت الدولة السعودية بالعالم الخارجي حتى أسقطتها الراية التي وحدتها من قبل. وهذا الذي أدركه المؤسس الأول العبقري الداهية الملك عبد العزيز رحمه الله، فعزلها عن العالم الخارجي ونجح في تحقيق ذلك دون مواجهة ابتداء، إلا أنه اضطر رحمه الله للمواجهة للمحافظة على عزلها عن العالم الخارجي، وذلك في معركة السبلة. فمنهج الدعوة منهج قوي دينيا وعمليا. والجانب الديني تحت سيطرة علمائها، وأما الجانب العملي فهو تحت سيطرة أتباعها، والأتباع هم الغالبية. ومنهج الدعوة الديني يفتقد أدوات المنهج العلمي الذي يستطيع أن يسيطر على جانبها العملي المنعزل على نفسه، والبعيد عن المتغيرات الحديثة والتصادمي مع العالم الخارجي. ولذا فقوتها من الناحية العملية يصعب السيطرة عليه بمعزل عن قوتها من الناحية الدينية (وسأشرح المقصود لاحقا في قصة مقالي السلفية على فراش الموت).
ولهذا فسيناريو السبلة وملحقاتها أصبح أكثر احتمالية وتكرارا في عصرنا الحديث، تحت واقع العولمة الحتمية. فما عاد ينفع العزل العملي دون تطوير المنهج العلمي الديني للدعوة. وهذا ما أدركه -من قبل أن يأتي زمان وقوعه بعقود- مؤسس الدولة السعودية الحديثة العبقري الشهيد الفيصل، حين اتخذ إجراءات عدة تهدف لتطوير منهج الدعوة العلمي في محاولة لكسر جمود منهجها العملي وتوسيع مداركها الخارجية. إلا أنه قد جاءت بعد ذلك أحداث دولية وانتكاسات داخلية أرجعت منهج الدعوة لعدة مراحل زمنية، نتج عنها نفس نتاج السبلة. فمـــا كان السكون الظاهر، إلا مَخاضا لسبلة أخرى إلا أنها سبلة عالمية بحكم العولمة الحديثة.
فالقاعدة ليست من الدعوة الوهابية بل هم من الخوارج عليها كما كانت السبلة من الخوارج عن الدعوة. والخوارج على أمير المؤمنين علي رضي الله عنه إنما كانوا من جيشه وقد تمخضت أفكارهم المتشددة المنحرفة عن منهجه الديني المتورع، فحاربوه ابتداء ثم حاربوا الأمة كلها وفسقوا فيها بعد ذلك. فلا يُنسب الخوارج وفتنهم التي تمخضت عنهم لمنهج أمير المؤمنين علي. وداعش ممن تمخض عن القاعدة كما تمخض غلاة الخوارج عن الخوارج الذين خرجوا عن علي، فمن ينسب القاعدة أو داعش أو الارهاب للدعوة الوهابية فهو كمن ينسب الخوارج لمنهج علي رضي الله عنه.
وهذه هي أصول خلفيات قصة مقالي «السلفية على فراش الموت». فأصل المقال اقتطفته من مقدمة كتبتها قبل سنوات، لمقترح قدمته لتطوير الجانب العلمي الديني للدعوة الوهابية، خدمة للدين وتحسبا من الآثار الحتمية لجمود الدعوة التي لم يسلم منها منهج علي رضي الله عنه. فأما علي رضي الله عنه فله من المكانة ما جنبه تاريخيا نسبة الخوارج إليه إلا أنها أدركته هذه النسبة في زمانه حين كان يُشتم في خطب الجمعة، فكيف تسلم منها الدعوة الوهابية.
فالجانب الديني قوي وثابت في الدعوة يحمل في طيات أصوله دين محمد عليه الصلاة و السلام الصالح لكل زمان ومكان. وهذا ما أشرت إليه في ذلك المقال في عبارتي «فدعوة إمام التوحيد شجرة أصلها ثابت وفرعها في السماء». وهذا ما أدندن به دائما وما قدمته كممثل للإسلام السني في مؤتمر فينا.
ومرت الأيام ونسيت الأمركله، حتى تورطت وأنا في سفر في الجهة الأخرى من الأرض حين أدركت أنني لن أستطيع كتابة مقالي الذي حان موعد نشره، فما وعيت إلا وأنا أعود لهذا المقترح فاقتطفت منه مقطعا وأرسلته تحت عنوان «السلفية على فراش الموت» ولم أكن أتوقع إجازته ونشره، ولكنه نُشر حرفيا. فهل السلفية على فراش الموت أم لا، وقد أُلصق بها القاعدة وداعش والإرهاب.