أمي أصابها العته.. قيل إنها أتت من غرب إفريقيا، أتت جينات.. أم طفلة.. أم امرأة.. لا أدري.. لكنها هنا وجدت نفسها. هذا ما سمعته من الأناس الطيِّبين الذين نعيش وسطهم. ملامحها تختلف عنهم، فهي طويلة القامة ممتلئة، داكنة السمرة، بعض منهم يماثلها في السمرة، ذات الشعر القصير الكثيف شديد السواد، نظرتها نافذة لكن إلى أين تنظر؟. إنها لا تتكلم، لم أسمع صوتها قط، إلا في أضغاث أحلامها. أنا أختلف عنها، فلوني أسمر فاتح، وشعري طويل ومنسدل أسود، أورثتني لون شعرها وقامتها الممتدة، عمري خمسة عشر عاماً.
منذ بلغت مبلغ النساء، شَيَّدَ لنا عم صابر منزلاً في السكة الحديد، هو احدى عرباتها الخربة. نظفتها بعدما وهبنا إياها، وابتاع لنا فرشاً وملاءات، وبعد نومنا في الشارع، أصبح هناك جدر تدارينا عن المتلصصين بنظراتهم، وصرت استحم داخلها، وأبدل لأمي ملابسها، وأشذب شعري وشعرها. حاولت المرات أن أحبسها بدارنا الجديدة، إلا أنني لم استطع، وقد نهاني عم صابر عن ذلك، وقال إن الجميع أهلنا، وإنه أخبرهم جميعاً: من وجدها بعد الغروب بالخارج سيحضرها لي.
أبي.. لا أحد يدري من هو .. عم صابر أخذ يرعاها إلى أن وضعتني، ثم رعاني. تمنى لو كنت صبياً، حتى لا يلتهمني الشارع، فربَّاني على ذلك. عملت ببيع الأكياس في السوق، وعاملةً بالمقهى الكبير في المدينة، وكمسارياً بـ»باص تاتا» كبير يملكه عم صابر الكمسنجي بموقف العربات الوحيد بالمدينة.
ذات صباح، جمع غفير من الناس، متجمعون في المقهى، متحلقون قرب الصندوق الصغير المربع الخشبي، ذي الوجه الزجاجي المسمى التلفزيون، رجل يرتدي زياً عسكرياً وبكتفيه علامات كثيرات، وتصاحب صورته موسيقى كموسيقى المدفعية عندنا بمدينتنا وسجونها المارشات. تمنيت لو كان أبي، سألتهم عن من هو؟ ضحكوا وقالوا هل هناك من لا يعرف رئيس دولته، هذا الرئيس، ومنذ ذلك الحين كل من يسألني عن أبي أجيبه بأنه الرئيس، إلى أن سميت بنت الرئيس.
أخذت حصتنا من الأكل الذي جمعته من تجوالي طوال اليوم في السوق وحملته إلى أمي، وقصصت لها قصة الرئيس ونحن نأكل، ضحكت مقهقهة ولأول مرة أسمع صوتها وهي مستيقظة، قالت لي وهي تضمني ان الرئيس الوسيم ذا البشرة البيضاء والشعر المسترسل هو والدك. تحركت عجلات عربتنا المهجورة وألحقت بعربة الفرملة في نهاية القطار، وتحرك القطار قاصداً الجنوب، طق.. طق.. طق.. طق.. كان ذلك صوت عجلات القطار.
في الجنوب مياه كثيرة، وأمطار غيوم طيلة الوقت. استغربت أمي المكان، فلم تخرج من دارنا التي أهداها لنا العم صابر، مما رفع عن كاهلي مهمة متابعتها في مدينة لا يعرفها فيها أحد. وجمعت كل معارفي التي اكتسبتها في الشمال، وجبت الأسواق باحثة عن عمل، وتنقلت ما بين العمل في المقهى والبيع والشراء من الملح الباهظ الثمن هنا، هناك رخيص كما التراب، سألوني عن أمي فأخبرتهم عن الحقيقة، وعن أبي فقلت إني بنت الرئيس، هكذا قالت أمي. ويوماً ما وفي التلفزيون رأيت أبي ذليلاً مخزياً مجرداً من علاماته ومارشاته، كان الأجدر بي أن أنكره كما أنكرني، ولكني فتاة أصيلة، هكذا علمني عم صابر، لم أنكره وتمسكت به. بلغت السابعة عشرة ولوني الأسمر الفاتح وشعري الأسود المسترسل وقع على الناس ولأخلاقي أبيض. هناك سألني المك* الزواج بابنه وأكون ابنة الرئيس زوجة ابن المك، وسألته: هل ينكر ابن المك أبناءه كالرئيس؟ أجابني بالنفي، فتزوجته، ونقلت أمي من عربة القطار إلى قطية في دار ابن المك (المنايّ لقاي).
بداره رجال كثيرون ونساء كثيرات يشبهن أمي، ورجل عجوز يتوكأ على عصا، ويرتدي اللاووه الأبيض بياض جلباب عم صابر، غابات تضاهي النخيل طولاً، أبقار هنا ومعيز هناك، بعد سنوات سيكون لي أبناء سمر وسود ذوو شعر كثيف قصير طويل مسترسل ولـ...