بقيت الصحف المجموعة على يد زيد بن ثابت رضي الله عنه في ملك أبي بكر الصديق رضي الله عنه إلى أن وافته المنية سنة 13 هـ، فصارت إلى عمر رضي الله عنه وتوفي عنها فأخذتها حفصة رضي الله عنها صدراً من ولاية عثمان رضي الله عنه، وتوسعت رقعة العالم الإسلامي وتفرّق أهل الإسلام بقرائهم في أرض الله الواسعة فأخذ عنهم الناس القراءات، فأهل الكوفة أخذوا عن ابن مسعود وأهل البصرة عن أبي موسى الأشعري وأهل دمشق والشام عن المقداد بن الأسود، وانتشرت قراءة أُبي بن كعب في سائر الشام وكانت هذه القراءات تختلف باختلاف حروف القرآن التي بها أُنزل، فكان من ذلك أنه إذا اجتمع المسلمون في محلة أو ساحة في مواجهة للأعداء تعجبوا من اختلاف القراءات بينهم، فاختصم الناس وتهاجروا وموافقة غزا حذيفة بن اليمان رضي الله عنه مع أهل العراق أرمينية وأذربيجان فوقف على الواقع المر من التخاصم بل والتكفير فهرع إلى أمير المؤمنين عثمان بن عفان رضي الله عنه فأكبر الصحابة كلهم ذلك، وأجمعوا أن يأخذوا الصحف التي لدى حفصة فأرسل إليها عثمان في ذلك فبعثت بالصحف وأمر الكتاب وهم زيد بن ثابت وعبد الله بن الزبير وسعيد بن العاص وعبد الرحمن بن الحارث بن هشام وأمرهم بأن ما اختلفوا فيه فعليهم بلسان قريش فأرسل نسخ القرآن إلى مكة والشام والبصرة والكوفة والبحرين وفي المدينة واحد ثم أمر بما خالف ذلك أن يحرق وذلك سنة 25 هـ.
قال البخاري (حدثنا موسى حدثنا إبراهيم حدثنا ابن شهاب أن أنس بن مالك حدثه أن حذيفة بن اليمان قدم على عثمان وكان يغازي أهل الشام في فتح إرمينية وأذربيجان مع أهل العراق، فأفزع حذيفة اختلافهم في القراءة فقال حذيفة لعثمان يا أمير المؤمنين أدرك هذه الأمة قبل أن يختلفوا في الكتاب اختلاف اليهود والنصارى، فأرسل عثمان إلى حفصة أن أرسلي إلينا بالصحف ننسخها في المصاحف ثم نردها إليك فأرسلت بها حفصة إلى عثمان فأمر زيد بن ثابت وعبد الله بن الزبير وسعيد بن العاص وعبد الرحمن بن الحارث بن هشام فنسخوها في المصاحف، وقال عثمان للرهط القريشيين الثلاثة إذا اختلفتم أنتم وزيد بن ثابت في شيء من القرآن فاكتبوه بلسان قريش فإنما نزل بلسانهم فافعلوا حتى إذا نسخوا الصحف في المصاحف رد عثمان الصحف إلى حفصة وأرسل إلى كل أفق بمصحف مما نسخوا وأمر بما سواه من القرآن في كل صحيفة أو مصحف أن يحرق).
وعلَّق علي رضي الله عنه على حرق المصاحف بقوله: (لو لم يفعل ذلك عثمان لفعلته أنا) (1)
(وكان السبب في هذا حذيفة بن اليمان، رضي الله عنه لما كان غازياً في فتح أرمينية وأذربيجان، وكان قد اجتمع هناك أهل الشام والعراق وجعل حذيفة يسمع منهم قراءات على حروف شتى، ورأى منهم اختلافاً وافتراقاً، فلما رجع إلى عثمان أعلمه وقال لعثمان: أدرك هذه الأمة قبل أن يختلفوا في الكتاب اختلاف اليهود والنصارى.
وذلك أن اليهود والنصارى مختلفون فيما بأيديهم من الكتب، فاليهود بأيديهم نسخة من التوراة، والسامرة يخالفونهم في ألفاظ كثيرة ومعانٍ أيضاً، وليس في توراة السامرة حرف الهمزة ولا حرف الياء، والنصارى - أيضاً - بأيديهم توراة يسمونها العتيقة وهي مخالفة لنسختي اليهود والسامرة، وأما الأناجيل التي بأيدي النصارى فأربعة: إنجيل مرقس، وإنجيل لوقا وإنجيل متى، وإنجيل يوحنا، وهي مختلفة - أيضاً -اختلافاً كثيراً، وهذه الأناجيل الأربعة كل منها لطيف الحجم منها ما هو قريب من أربع عشرة ورقة بخط متوسط، ومنها ما هو أكثر من ذلك إما بالنصف أو بالضعف، ومضمونها سيرة عيسى وأيامه وأحكامه وكلامه وفيه شيء قليل مما يدّعون أنه كلام الله، وهي مع هذا مختلفة، كما قلنا، وكذلك التوراة مع ما فيها من التبديل والتحريف، ثم هما منسوخان بعد ذلك بهذه الشريعة المحمدية المطهرة.
فلما قال حذيفة لعثمان ذلك أفزعه وأرسل إلى حفصة أم المؤمنين أن ترسل إليه بالصحف التي عندها مما جمعه الشيخان ليكتب ذلك في مصحف واحد، وينفذه إلى الآفاق، ويجمع الناس على القراءة به وترك ما سواه، ففعلت حفصة وأمر عثمان هؤلاء الأربعة وهم: زيد بن ثابت الأنصاري، أحد كتّاب الوحي لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وعبد الله بن الزبير بن العوام القرشي الأسدي، أحد فقهاء الصحابة ونجبائهم علماً وعملاً وأصلاً وفضلاً وسعيد بن العاص بن سعيد بن العاص بن أمية القرشي الأموي، وكان كريماً جواداً ممدحاً، وكان أشبه الناس لهجة برسول الله صلى الله عليه وسلم وعبد الرحمن بن الحارث بن هشام بن المغيرة بن عبد الله بن عمر بن مخزوم القرشي المخزومي، فجلس هؤلاء النفر يكتبون القرآن نسخاً، وإذا اختلفوا في وضع الكتابة على أي لغة رجعوا إلى عثمان، كما اختلفوا في التابوت أيكتبونه بالتاء والهاء، فقال زيد بن ثابت: إنما هو التابوه وقال الثلاثة القرشيون: إنما هو التابوت فتراجعوا إلى عثمان فقال: اكتبوه بلغة قريش، فإن القرآن نزل بلغتهم.
وكان عثمان - والله أعلم - رتّب السور في المصحف، وقدّم السبع الطوال وثنى بالمئين؛ ولهذا روى ابن جرير وأبو داود والترمذي والنسائي من حديث غير واحد من الأئمة الكبار، عن عوف الأعرابي، عن يزيد الفارسي، عن ابن عباس قال: قلت لعثمان بن عفان: ما حملكم أن عمدتم إلى الأنفال وهي من المثاني وإلى براءة وهي من المئين، فقرنتم بينها ولم تكتبوا بينها سطر «بسم الله الرحمن الرحيم»، ووضعتموها في السبع الطوال؟ ما حملكم على ذلك؟ فقال عثمان: كان رسول الله مما يأتي عليه الزمان وهو ينزل عليه السور ذوات العدد، فكان إذا نزل عليه الشيء دعا بعض من كان يكتب فيقول: ضعوا هذه الآيات في السورة التي يذكر فيها كذا وكذا، فإذا أنزلت عليه الآية فيقول: ضعوا هذه الآية في السورة التي يذكر فيها كذا وكذا، وكانت الأنفال من أول ما نزل بالمدينة، وكانت براءة من آخر القرآن، وكانت قصتها شبيهة بقصتها، وحسبت أنها منها وقبض رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يبين لنا أنها منها، فمن أجل ذلك قرنت بينهما ولم أكتب بينهما سطر «بسم الله الرحمن الرحيم» فوضعتها في السبع الطوال.
ففهم من هذا الحديث أن ترتيب الآيات والسور أمر توقيفي متلقى عن الرسول صلى الله عليه وسلم، وأما ترتيب السور فمن أمير المؤمنين عثمان بن عفان، رضي الله عنه؛ ولهذا ليس لأحد أن يقرأ القرآن إلا مرتباً؛ فإن نكسه أخطأ خطأ كبيراً.. وأما ترتيب السور فمستحب اقتداء بعثمان، رضي الله عنه، والأولى إذا قرأ أن يقرأ متوالياً كما قرأ، عليه الصلاة والسلام، في صلاة الجمعة بسورة الجمعة والمنافقين وتارة بسبح وهل أتاك حديث الغاشية، فإن فرق جاز، كما صح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قرأ في العيد بقاف واقتربت الساعة، رواه مسلم عن أبي واقد في الصحيحين عن أبي هريرة، رضي الله عنه؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقرأ في صلاة الصبح يوم الجمعة: الم السجدة، وهل أتى على الإنسان.
وإن قدم بعض السور على بعض جاز أيضاً، فقد روى حذيفة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قرأ البقرة ثم النساء ثم آل عمران. أخرجه مسلم.
وقرأ عمر في الفجر بسورة النحل ثم بيوسف.. ثم إن عثمان رد الصحف إلى حفصة، فلم تزل عندها حتى أرسل إليها مروان بن الحكم يطلبها فلم تعطه حتى ماتت، فأخذها من عبد الله بن عمر فحرقها لئلا يكون فيها شيء يخالف المصاحف التي نفذها عثمان إلى الآفاق، مصحفاً إلى أهل مكة، ومصحفاً إلى البصرة، وآخر إلى الكوفة، وآخر إلى الشام، وآخر إلى اليمن، وآخر إلى البحرين، وترك عند أهل المدينة مصحفاً، رواه أبو بكر بن أبي داود عن أبي حاتم السجستاني، سمعه يقوله. (2)
قال ابن كثير - رحمه الله -: فهذه الأفعال من أكبر القربات التي بادر إليها الأئمة الراشدون أبو بكر وعمر، رضي الله عنهما، حفظا على الناس القرآن، جمعاه لئلا يذهب منه شيء، وعثمان، رضي الله عنه، جمع قراءات الناس على مصحف واحد ووضعه على العرضة الأخيرة التي عارض بها جبريل رسول الله صلى الله عليه وسلم في آخر رمضان من عمره، عليه الصلاة والسلام، فإنه عارضه به عامئذٍ مرتين؛ ولهذا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لفاطمة ابنته لما مرض: (وما أرى ذلك إلا لاقتراب أجلي). أخرجاه في الصحيحين في صحيح البخاري برقم (6285، 6286) وصحيح مسلم برقم (2450).
ويصف لنا - رحمه الله - المصحف العثماني بقوله: وأما المصاحف العثمانية الأئمة فأشهرها اليوم الذي في الشام بجامع دمشق عند الركن شرقي المقصورة المعمورة بذكر الله، وقد كانت قديمًا بمدينة طبرية ثم نقل منها إلى دمشق في حدود ثماني عشرة وخمسمائة، وقد رأيته كتاباً عزيزاً جليلاً عظيماً ضخماً بخط حسن مبين قوي بحبر محكم في رق أظنه من جلود الإبل، والله أعلم، زاده الله تشريفاً وتكريماً وتعظيماً.
ويذكر (كوركيس عواد) أن مصحفاً في متحف الآثار الإسلامية بتركيا مكتوب على الرق كُتب في آخره أنه مصحف عثمان ويحمل في هذا المتحف رقم (457).
قال ابن التين وغيره الفرق بين جمع أبى بكر وجمع عثمان أن جمع أبى بكر كان لخشية أن يذهب من القرآن شيء بذهاب حملته لأنه لم يكن مجموعاً في موضع واحد فجمعه في صحائف مرتباً لآيات سوره على ما وقفهم عليه النبي صلى الله عليه وسلم وجمع عثمان كان لما كثر الاختلاف في وجوه القراءة حتى قرؤوه بلغاتهم على اتساع اللغات فأدى ذلك بعضهم إلى تخطئة بعض فخشي من تفاقم الأمر في ذلك فنسخ تلك الصحف في مصحف واحد مرتباً لسورة واقتصر من سائر اللغات على لغة قريش محتجاً بأنه نزل بلغتهم وإن كان قد وسّع في قراءته بلغة غيرهم رفعاً للحرج والمشقة في ابتداء الأمر فرأى أن الحاجة إلى ذلك قد انتهت فاقتصر على لغة واحدة.
وكان اسم مصحف عثمان الإمام وقد قتل رضي الله عنه ومصحفه في حجره يتلوه امتدت له يد الخيانة والغدر والغلو فانغمست في دمه الطاهر الشريف عليهم من الله ما يستحقون.
** ** **
(1) أخرجه أبو عبيد في الفضائل ص157 وابن أبي داود في المصاحف ص12-23.
(2) تفسير بن كثير ج1 ص35-39 طبعة دار بن الجوزي.