الناس في اقتنائها أصناف، منهم من هو صائد ماهر، ومنهم من هو حاطب ليل، ومنهم مستكثر بما لم يعطَ، ومنهم كتبي، غاية همه ونهاية مرامه أن يكدس الكتب في دواليبه الخشبية لينظفها كل يوم، ويعيد ترتيبها كل يوم، وإن قرأ منها شيئاً سقط على الرديء وقليل القيمة. وقد عرفت أحدهم، ورثيت له كثيراً أنه يبتاع منها الكثير والكثير، ولديه مكتبة هائلة مخيفة. إنه يقتني العديد من النسخ للكتاب الواحد، وإن كان من المطولات والمجلدات، بلا ميزة بين الطبعة والطبعة والنسخة والنسخة، بل هي هي. أدور معه في هذه المكتبة المركزية، وألمح له أن يوصي بها لي، ولا أدري من يسبق الآخر. وبطبيعة الحال، إن صارت إلى سأغربلها أشد ما تكون الغربلة، وإن صفي منها الثلث فخير، والثلث كثير. في زمن الستينيات الأوروبية فشت ظاهرة استعراضية، يقوم الناس فيها برص أوراق في مجلدات، وكأنها كتب، ووضعها على أرفف الصالون المنزلي، أو لصق ورق الجدران المزين بصور الرفوف حاملة الكتب؛ لتعطي المكان انطباعاً ثقافياً. تلقف العرب هذا بعد حين، وفي بواكير نهضتهم المزعومة، عندما جُلبت المطبعة إلى مصر، وصارت تقذف بالجيد وغيره من الكتب، فتلقفها أهلها وغير أهلها ممن يتجملون بها، ويجملون بها مجالسهم. وهنا أهمس في أذن القارئ المبتدئ - مع أن المقام لا يتحمل التوجيهات - بألا يُكثر بل يحرص على الكيف وما يناسب مرحلته القرائية، وأن يضع الكتب أمامه في مكتبة صغيرة جذابة؛ لتشع أجواؤه بالثقافة، ولا يزهد في وصايا القراء الكبار المنتجين لا الدود!؟
اقتناء الكتب فن وذوق وتحضر، وهو طبيعة نفسية تختلف باختلاف الناس، فمنهم من كتبه ملونة مشرقة، ومنهم من كتبه سوداء مظلمة، يغرق في عتمتها يوماً بعد يوم. وهذا الاقتناء يتطور ويتغير مع تقدم عمر الإنسان القرائي، بل تصقل الحاسة الانتقائية للكتب لدى القارئ، فما إن يدخل المكتبة وبلحظة عين واحدة يمر على رف كامل وهو يعلم يقيناً أنه ليس ذا بال. وأكثر من هذا، يدور بهدوء في المكتبة، ثم لا يلبث أن ينقض كنسر على رف من الرفوف؛ ليلتقط كتاباً، ويقلبه متصفحاً لفهرسه؛ ليدسه في كيسه بحبور؛ فقد اصطاد سميناً. كل هذا في لحظة واحدة. وكثرة الاقتناء لا تتعلق - بالضرورة - بالبدايات ولا النهايات؛ فكل قارئ وقصته الخاصة، لكنها تخضع لعوامل عدة، فتكون في البداية أحياناً لبناء المكتبة، وأيضاً للتخبط الشرائي، وتكون في المنتصف لوضوح الرؤية شيئاً ما، وللرغبة في اقتناء بعض الأمهات، وتكون في النهاية لوضوح الخارطة الذهنية والتخصص والجداول المحاذية للقضية الكبرى لدى القارئ. ولا يخفى ما للحالة النفسية من أثر في ذلك، فبعضهم يتبضع الكتب ليخفف وطأة الاكتئاب الطارئ فينة بعد أخرى.
لا يغالي آلبرتو مانغويل عندما يعلن أن فعل القراءة (يشكل علاقة حميمية وجسدية مع الكتاب بمشاركة جميع الحواس. العين تجمع الكلمات على صفحة، والأذن ترجع صدى الكلمات المقروءة، والأنف يشم رائحة الورق والصمغ والحبر والورق المقوى أو الجلد، والأنامل تتحسس الصفحات الناعمة أو الخشنة والتجليد الناعم أو القاسي، وحتى حاسة الذوق تشارك في العملية عندما يرفع القارئ إلى فمه الأصبع الموجودة على الصفحة. الطريقة التي سم فيها القاتل ضحاياه في رواية أمبرتو إيكو اسم الوردة). لقد عشت ذلك في إحدى صيفيات أبها، والصيف معروف بأدب الصيف، وأيضاً بقراءة الصيف. فقد قرأت في أقل من الشهر ستة وثلاثين كتاباً مع التعليق وضبط الفوائد. لقد كانت كبرى الغزوات. ولا أنكر أن قراءة كتاب عظيم على مهل تصب في مفاصل الفكر، وتؤثر على مناحي السلوك، بما لا يدع مجالاً للمقارنة بينه وبين هذه الغزوة القرائية. ويحكى أنه، ومن العصر الفكتوري، كان المسافر يحمل معه حقيبة من الكتب، بل هذا الصاحب بن عباد - إن صحت عنه الرواية - يسافر بأربعين جملاً محملة بالكتب.
لم أتطرق لتاريخ القراءة؛ لأن هذا المقال سُبق بمقالات عن تاريخ القلم وتاريخ الكتابة وتاريخ الكتاب؛ ما هيأ لي الاستراحة في هذا المقال مع هذه الخواطر التي قد يكون فيها شيء مفيد أو ممتع.