الوطنية بين جيلين

الانتماء الوطني بمفهومه الواسع والشامل سلوك اجتماعي، وديني، واقتصادي، وثقافي. هذا السلوك بين أفراد المجتمع طبيعي أن يختلف من شخص إلى آخر، ومن جيل إلى جيل، طبيعي أن يختلف كذلك من مجتمع إلى آخر في مفهومه، وفي أساليب غرسه ثقافياً في وجدان الشعوب.

من المسلَّم به أن بعض العوامل الاجتماعية، كالفقر، والتشرد بمختلف أسبابه، والبطالة، والحرمان العاطفي، وتدني مستوى التعليم، كلها لها أثرها الكبير في مدى ارتباط الإنسان بوطنه، وفي تقدير منجزاته، وأهمية المحافظة عليها.... وهكذا.

الشيء الملحوظ والمؤكد أن الجيل الذي عايش ظروف ما بعد توحيد هذه البلاد وتكوين مؤسسات الدولة، ووضع الأنظمة وتأطيرها، في أواخر عهد المؤسس، وفي فترة حكم الملك سعود، وفيصل (رحمهم الله جميعاً). هذا الجيل شارك بجهده الشخصي في هذه المرحلة، وأدرك مدى الصعوبة والمشقة التي عاناها المؤسسون، وأتاحت لهم ظروف الحياة أن يقارنوا بين تلك المرحلة، وما اكتنفها من صعوبات وتحديات ومشقات وبين ما ينعمون به حالياً، ذلك الإدراك الحقيقي وذلك الشعور هو ما جعل بالفعل القيم الوطنية وأهمية المحافظة عليها تتعالى في نفوسهم ويتشبثون بها أشد التشبث في كل موقف، وعلى أيّة حال يمر بها هذا البلد، حيث أصبحت مرحلة البناء جزءاً من شخصيتهم، وجزءاً من قصة حياة كفاح حقيقية يعتزون بها، ويستعذبونها حين يتناقلون الأحاديث فيها مع الأحفاد والأصدقاء، وربما كان هذا جزءاً من الرسالة أو الواجب الوطني عليهم، إذ لها الأثر الكبير على النشء الحاضر، وهو ينظر، ويقارن، ويوازن، ويحلل.

هناك جيل جديد ربما يشكّل الآن أكثر من 60% من كلا الجنسين يتناول الوطنية ومفاهيمها من منظور آخر، لا يعتمد على تاريخ التكوين للدولة فحسب، بل تختلف رؤيته وثقافته، وعوامل تقديره للظروف، وتقييمه للأشياء والحياة من حوله.. لأنه لا يعي، أو يدرك من مرحلة التأسيس إلا بعض الأحاديث، أو الصور التي تمثّل بعض جوانب التاريخ الماضي وإنجازات الحاضر، والتي نتناقلها بين فترة وأخرى وتُساق بأساليب مختلفة وتختلف درجة تأثيرها على وجدان الفرد حسب القالب والسياق الذي تقدم به، ولهذا عند الحديث عن أهمية الوطن والانتماء إليه والمحافظة على ممتلكاته يتجه مباشرة لأسلوب المقارنات بين واقع بلاده الحالي، وبين دول وحضارات سابقة في تكوينها، ومراحل نهضتها واستقرارها وتجاربها إذا ما قُورنت بالفترة القصيرة التي مرت بها المملكة العربية السعودية. هذا الجيل لا يمكن أن تستميله أو تستهويه أهازيج وعواطف الشعراء، حينما نردد على مسامعه بالمناسبة من يقول:

وحبب أوطان الرجال إليهم

مآرب قضاها الشباب هنالكا

إذا ذكروا أوطانهم ذكرتهم

عهود الصبا فيها فحنوا لذلكا

المناسبة تختلف، والظرف يختلف، ووسيلة الإقناع تختلف، وربما تكون حتى ذكريات الصبا عند البعض من أكثر المراحل شؤماً عليه.

ولهذا بكل أسف نشأ عند بعض شبابنا نوعٌ من الاضطراب في التفكير بهذه الجوانب تجاه الحياة بشكل عام، بل وحتى تجاه ثقافته وخصوصيتها.. إذن الخلل، أو اختلاف مفهوم الوطنية بين الأفراد والأجيال تحتاج إلى من يردم الهوة فيما بينها بأساليب مقنعة لا تنظر من زاوية واحدة، بل من زوايا متعددة، لكي نكون أكثر جدية، ونحن نعزز ثقافة الانتماء في وجدان الناشئة، وليس هناك ما يمنع من استفادة بعض الشعوب والمجتمعات والدول التي تحتفي بين حين وآخر بأيامها الخالدة والمجيدة، كيف تقدم المناسبة لمجتمعاتها شكلاً ومضموناً؟ ما الذي يُعد أساساً، وما الذي يُعد فرعاً في المحتوى؟ وهل من الضرورة أن تكون كل مناسبة نسخة مكررة من سابقتها؟.. أي ما الجديد الذي يجب أن نقدمه ونفاجئ به الأجيال كل سنة، حتى يصبحوا في لهف وشوق وانتماء صادق لهذا البلد الذي منحهم من خيراته الشيء الكثير.