* الشعوبية من أخطر الحركات الفكرية التي ولدت آواخر عصر بني أمية وبلغت ذروتها في أوج ازدهار الخلافة العباسية، والشعوبية وإن كانت حركة سلمية اشتبكت فيها الألسنة والأقلام، وقامت على أساس الانتقاص، أو السخرية من الجنس العربي وتفضيل غيره عليه، رغم ذلك، إلا أن أثرها فيما بعد لم يقل عن أثر الحروب. وكما هو معلوم لم تظهر الشعوبية وتقوى شوكة من حمل رايتها إلا بعد التوسع في الفتوحات واختلاط العرب بغيرهم، وبخاصة الفرس، والأتراك، والإسبان المستعربون.
* والحركة الشعوبية حدثت كردة فعل لسلوك العرب الفاتحين حينذاك، إذ اصطحبوا معهم بعض العادات والموروثات القبلية، حيث كانت العصبية القبلية حاضرة معهم أينما حلوا، في حين كانت بعض الأجناس أكثر تحضراً ورقياً.. هذا الشعور من كل فئة طبيعي أن يتنامى، وبخاصة عند من شكل الإسلام هويتهم وثقافتهم، لذا لا نستغرب حين يستدل بعض دعاة هذه الحركة بالآية القرآنية: يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ ، وقد ارتبطت ظهور الحركة بظهور فئة من الزنادقة في بلاد الشام والعراق وخراسان.
* ورغم كثرة العناصر غير العربية، سواء كانت في بلاد العرب التي استوطنوها، أو كانوا في بلدانهم الأصلية التي خضعت للحكم العربي والإسلامي إلا أن الخلفاء، وبخاصة في عصر بني أمية ضيقوا عليهم الخناق، وعمدوا إلى إقصائهم، وبالذات في الأعمال الحساسة، مما زاد من غضبهم، ليضمر بعضم لكل ما يمت للعرب أو الثقافة العربية الحقد الدفين في نفوسهم، لذلك لم يتركوا فرصة، أو باباً إلا وولجوه لنشر أفكارهم، واتخذوا من كتب التراث الأدبي أوسع الأبواب وأكثرها رحابة من غيرها.
* التاريخ يثبت أن الحضارة العربية بمكوناتها الثقافية في بلاد المغرب العربي أو المشرق لم تبلغ شأواً كبيراً إلا بعد أن امتزجت بالثقافات الأخرى. واتصال العرب واختلاطهم بغيرهم صنع تلك الحضارة أو الثقافة الإسلامية التي لم يكن لها مثيلا في ذلك العصر، إذ كانت العلوم المزدهرة وحركة البحث العلمي هو ما اعتمدت عليه أوروبا في نهضتها الحديثة، ورغم خطورة جيل ما يعرف بالمولدين على كيان الدولة الأموية في الأندلس، أو العباسي في بلاد المشرق إلا أن ذلك العنصر أسهم إسهاما كبيراً في النهضة العلمية والثقافية، ولذلك كتب للحركة الشعوبية الرواج والقبول والتأييد حتى عند بعض العرب. وحينما كانت الدولة، أو الحضارة الإسلامية لها قصب السبق، وحينما كان للعرب سلطتهم وقوتهم ونفوذهم السياسي لم تتجاوز حركة الشعوبيين السجال الفكري، في المؤلفات، أو في المنتديات والملتقيات الثقافية التي كانت تعقد في مجالس الخلفاء والوزراء وعلية القوم.
* وقد يكون من أسباب انتشار حركة الشعوبيين في بادئ الأمر أنهم لم يتخذوا طابعاً مذهبياً يستثير غيرهم، ولم يميلوا إلى حزب سياسي محدد، لكنهم فيما بعد وحينما تضعضع الحكم العربي في العصور العباسية أصبح منهم الوزراء والقادة العسكريين، فتحكموا شيئاً فشيئاً بموارد الدولة، وسيطروا على بعض مفاصل الحكم فيها حتى وصلوا إلى سدة الحكم، والبويهيون والسلاجقة خير مثال على ذلك التغلغل.
* الإسلام بقيمه ومبادئه وسماحته وعدالته لم يفرق بين جنس وآخر، بل حارب مثل تلك النزعات وعدها من موروثات الجاهلية إلا أننا نجد من يعيد نبش هذه الحركة من جديد، مستغلاً الأحداث والأوضاع السياسية التي تمر بها منطقة الشرق الأوسط، إذ أصبحنا نسمع من خلال أطروحات عديدة، ومن خلال وسائل الإعلام من يعزف على هذا الوتر، منطلقين من أهداف وأجندة واحدة، لا فرق في ذلك بين الأفراد، أو من ينتمون إلى مؤسسات ودول داعمة لهذا الاتجاه، ومما يؤسف له أن وسائل إعلامنا العربية هي من تفسح المجال، وتغذي هذا التيار بوعي، أو بدون وعي.