المعاصي ذنوب يقترفها الإنسان، مخالفاً بذلك شريعة الله، بأمره وأمر رسله، وكل المعاصي قبيحة، إلاّ أن بعضها أقبح من بعض وأشدّ إثماً، وقد أهلك الله أمماً، بسبب تعمدّهم عصيان شرعه اتباع الهوى والركون للمعصية، والشباب هم الكُثر لمغريات المعاصي، بما يزينه قرناء السوء، وبما تسوّله النفوس، كما قيل:
إن الشباب والفراغ والجِدة
مفسدة للمرء أيّ مفسدة
إذ يتمادون في الموبقات، لضعف الوازع، مع فقدان الرعاية، وضعف التوجيه، فهم في حاجة لمدافعة المغريات وحسن الصحبة، مع ملاحقتهم بالتوجيه، ثم الجزاء، لأن الله يزع بالسلطان ما لا يزع بالقرآن، ولذا كان جزاء الله عظيماً للشباب الذي نشأ في طاعة الله، واستقام على ذلك، فأخبر النبي الكريم: (أنه من السبعة الذين يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله) وما ذلك إلا أن كل معصية جاء فيها وعيد، بالنار أو العذاب فهي كبيرة، والكبائر من المعاصي هي سبع، وقيل سبعون، ورفعها بعضهم إلى المئات، فألّف فيها الذهبي كتاباً، وبين ما فيها من الإثم والوعيد، ومنها السبع الموبقات، التي جاء فيها الحديث، وأولها الشرك بالله، ثم عقوق الوالدين، وما أكثرها في هذا الزمان، إلا من رحمن الله، فالسعيد من حرص على تجنبها، حتى يسعد في دنياه وأخراه، ومعنى موبقات: أي المهلكات.
وكان أول العصاة على وجه الأرض إبليس الذي استكبر وعصا أمر الله بالسجود لآدم، مستعلياً بنفسه عن طاعة الله وقال: {قَالَ مَا مَنَعَكَ أَلاَّ تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ قَالَ أَنَاْ خَيْرٌ مِّنْهُ خَلَقْتَنِي مِن نَّارٍ وَخَلَقْتَهُ مِن طِينٍ} (12 سورة الأعراف). وبالحسد عصا أول إنسان ربه، حينما قتل أحد أبني آدم أخاه، كما في سورة المائدة.
ذلك أن العاصي يعتبر نفسه على حق، مادام أعطى نفسه هواها، واستسلم بعيداً عن محاسبة النفس، {أَفَمَن زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَنًا} (8 سورة فاطر).
فهو بعمله هذا إذا لم يتب يعتبر معانداً لله، ومتكبراً على رسوله الذي بعثه الله مبلغاً الأمة، ما يجب عليهم من دين الله الحق قال سبحانه: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} (56-57 سورة الذاريات).
وإبليس مثلما غوى وظلّ، لا يهنأ له بال حتى يغوي من يقدر عليه من البشر، وإيقاعهم في المعاصي، وكل معصية مهما صغرت مع الإصرار وبدون توبة، يكبر حجمها ويشتدّ إثمها، وتتحول من قبيحة إلى أقبح، كما قيل: لا ذنب مع الاستغفار، ولا معصية مهما صغرت مع الإصرار.
والذنب الذي يقترفه الإنسان، هو من سمات البشر لأنهم ينسون ويخطئون، ولكن الله يتجاوز ويعفو عنهم، بالندم والتوبة والاستغفار، إذا طلبوا من الله سبحانه، إقالة العثرات: توبة وإنابة: {وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِّمَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا ثُمَّ اهْتَدَى} (82 سورة طـه)، ويقول: {وَمَا كَانَ اللّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنتَ فِيهِمْ وَمَا كَانَ اللّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ} (33 سورة الأنفال) وإبليس يقول: كلّما أغويت ابن آدم: أحرقني بالاستغفار.
ومن رحمة الله: أن جعل سبحانه للعاصي مجالاً، ليفيق من غفلته، ويراجع نفسه من عمله السيئ بعدما تذهب السكرة، وتجيء الفكرة، أن الله جعل سبحانه: باب التوبة مفتوحاً، لأنه يفرح بتوبة عبده، كما في حديث صاحب الناقة، الذي ضاعت منه في فلاة، وعليها متاعه وطعامه، وعجز عن العثور عنها فنام تحت شجرة من الإعياء، والتعب والجوع والظمأ، فلما استيقظ إذا هي واقفة بجواره بما عليها، فقال: اللهم أنت عبدي وأنا ربك، غلط من شدة الفرح، وجاء في الأثر لو لم تذنبوا لأتى الله بقوم، يذنبون فيستغفرون ويغفر لهم.
والله سبحانه: يحب التوابين، ويحب المستغفرين، كما أن من رحمته بأمة محمد، أنها لا تهلك بسنة عامة، كما أهلكت الأمم السابقة، وكانت من ضمن ثلاث سألها النبي الكريم، فأعطي اثنتين، ومنع الثالثة، ولكن يبقى بينهم الحسد، والغيبة والنميمة والبغضاء.
لذا كان كل مسلم عليه دور: أن ينكر المعصية إذا رآها عند صديق أو قريب، أو غيرهما كالجار وزميل العمل، بالرفق أولاً، والنصيحة الحسنة فيما بينهما لعلّه يتوب ويراجع نفسه.. لأن المعصية إذا خفيت خصّ عقابها صاحبها، أماّ إذا أظهرت وبارز العاصي ربـّه والتسويف فيها، حتى يفوت الأمر، ويهجم الأجل من دون إنذار ولا تأجيل، وقد لعن الله بني إسرائيل على لسان أنبيائه، بعدم تناهيهم عن المنكر.
وقد يؤخر الله العقوبات لحكمة يريدها، وهو الحكيم العليم، لعلّ العاصي يتوب بعد أن يتحرك عنده جانب الخير، رغبة في الابتعاد عن الشر، الذي قاده للمعصية، ومن رحمة الله بعباده، أن العاصي مهما اقترف من ذنب، قد يتحرك عنده جانب الخير، بتحرك الضمير، مع النصح، أو سماع شيء من القرآن، أو الذكر أو مصيبة تحلّ به أو بغيره، فيبار بالتوبة إلى الله، لأن بابها مفتوح حتى يغرغر الإنسان.
والعاقل لا يغترّ ويتساهل في معصيته، ويأتيه عقابها، متعللاً أو مستهيناً بأثرها، فالله يمهل ولا يهمل، فقد يكون تأخيرها أشدّ، ألم يقل سبحانه: {وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ} (183 سورة الأعراف) ويقول: {مَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاء فَعَلَيْهَا وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِّلْعَبِيدِ} (46 سورة فصلت).
وهذا أشدّ وأنكى، لأن من تاب فقد نجا ومن عُجلَتْ له عقوبته في الدنيا، كان ألمها وقتياً، فهو أهون من عقاب الآخرة، والله سبحانه يعفو ويغفر لمن يشاء.
ولكي يأخذ العاقل عبرة من أثر المعصية، ويحاسب نفسه حتى لا يتمادى: فليعتبر من مقولة أحد العلماء من كبار التابعين: إنني كلما أذنبت مهما صغر أو كبر، فإنني أرى أثر العقوبة في خُلق زوجتي أو خادمي، وفي طباع دابتي، وهذا في حالة من يتخوّف من المعصية، أو وقع فيها، وهو يتساهل فيها، أو يظنها ليست معصية، فتكون بهذا الوقع تنبيهاً، سواء كانت المعصية: كلمة أو نظرة لا تحل، أو عدم استجابة لسائل، أو فعل خير ومساعدة محتاج، أو غير من الأمور البسيطة عند الناس، مغايرة لآداب الإسلام، فيكون من رأفة الله بالعبد، أن يُساق له التنبيه، ليستغفر ويتوب أما المتهاون المستهتر بالمعصية، والغافل قلبه، فإن الله يمهله ويستدرجه حتى يأخذه أخذ عزيز مقتدر، ألم يتوعد الله العاصين المصرّين على معصيتهم بآيات كثيرة، منها قوله سبحانه: {فَذَرْنِي وَمَن يُكَذِّبُ بِهَذَا الْحَدِيثِ سَنَسْتَدْرِجُهُم مِّنْ حَيْثُ لَا يَعْلَمُونَ وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ} (القلم 44، 45).
كما أن كل معصية مهما صغُرت يجب عدم التهاون بها، لأنها سيئة في نفسها قبيحة في نتيجتها وعملها، وسوء أدب مع المنعم المتفضّل الذي منه سبحانه الإنعام: بالصحة والعافية، والجاه والمال، والولد والمأكل والمشرب، وتيسير الأمور وغير ذلك من النعم الكثيرة التي قال فيها سبحانه: {وَآتَاكُم مِّن كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَتَ اللّهِ لاَ تُحْصُوهَا} (34 سورة إبراهيم)، والعبد عندما يقابل ربـّه: بدل الشكر بالمعصية، والأشدّ الإصرار عليها، أو المجاهرة بها، فإن في هذا مصادقة لشرع الله، لأن أبسط علاقات الناس فيما بينهم: مقابلة الإحسان بالشكر والإحسان أو عدم الإساءة لمن أحسن إليك، ومن الأدب مع الله البُعد عن محارمه، وتطبيق أوامره.
ولذا فإن من المعاصي بعضها أقبح من بعض، وأشدّ عقاباً لمن مات ولم يتب منها: كالرّبا الذي هو محاربة لله، ومن ذا الذي يتجرأ على محاربة الله عزَّ وجلَّ، يقول عزَّ وجلَّ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ وَذَرُواْ مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ فَإِن لَّمْ تَفْعَلُواْ فَأْذَنُواْ بِحَرْبٍ مِّنَ اللّهِ وَرَسُولِهِ وَإِن تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُؤُوسُ أَمْوَالِكُمْ لاَ تَظْلِمُونَ وَلاَ تُظْلَمُونَ وَإِن كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ وَأَن تَصَدَّقُواْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ} (البقرة 278-280).
والزنا الذي وصفه الله، بأنه فاحشة وساء سبيلاً، لما فيه من اختلاط الأنساب مع سوءة يجب الحذر منه ومنع أسبابه، وشرب الخمر لأنها أم الخبائث، ويدخل في حكمها تعاطي المخدرات، لما وراءها من جرائم في الإنسان وتجرّ على الآخرين، مع قتل النفس، وسوء المصير والقضاء على المعنويات، مع ارتكاب المحرمات التي يندي لها الجبين، وتقشعر منها الأبدان التي حرّمها الله سبحانه وغيرها من المعاصي الكثيرة، الموجهة للمسلمين لينصرفوا عن دينهم لقبحها، وأقبح من هذه الشرور الإصرار عليها والدعوة إليها، وأكل الأموال بالباطل بها، والدعوة إلى ارتكاب هذه المآثم التي تتكاثر على المسلمين، في غزو متعمد وموجه، ما ظهر منها وما بطن، دون خوف من الله أو وازع ديني، بالمتاجرة والدعوة إلى ما نهى الله عنه، وعلى كل مسلم أن يحفظ نفسه ودينه: من الأعداء والمغريات والمحرمات.
ولذا فإن من المهم والواجب يقظة الضمير، ومراقبة الله في العمل: سراً وجهراً، وإدراك أن الله قريب من عباده التائبين، فهو رحيم بعباده ويفرح بتوبتهم، ومحاسبة النفس، يقول ابن القيّم: إن محاسبة النفس تكون أولاً: البدء بالفرائض، فإذا رأى فيها نقصاً، تداركه، ثانياً: ثم الناهي فإذا عرف أنه ارتكب منها شيئاً، تداركه بالتوبة، والاستغفار والحسنات الماحية، ثالثاً: محاسبة النفس على الغفلة والتدارك بالذكر والإقبال على الله، رابعاً: وتحاسب أيها العبد حركات الجوارح: الكلام باللسان والمشي بالرجلين، وبطش اليدين، ومراقبة العينين عن النظر لما لا يحل، والسماع بالأذنين عما لا ينفع فيه، لقوله تعالى: {وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً وَلاَ تَمْشِ فِي الأَرْضِ مَرَحًا إِنَّكَ لَن تَخْرِقَ الأَرْضَ وَلَن تَبْلُغَ الْجِبَالَ طُولاً كُلُّ ذَلِكَ كَانَ سَيٍّئُهُ عِنْدَ رَبِّكَ مَكْرُوهًا} (الإسراء 36-38)، وآيات الآداب في القرآن وفي السنة المطهرة عديدة يجب التأدب بها.
فلا مفر من قدر الله:
أورد الدّميريّ في كتابه: حياة الحيوان الكبرى: أنـّه كان فيمن كان قبلنا، امرأة وكان لها أجير، فولدت جارية، فقالت للأجير: اقتبس لنا ناراً، فخرج فوجد بالباب رجلاً، فقال له ذلك الرجل: ماذا ولدت هذه المرأة؟ فقال: جارية، فقال: أما إن هذه الجارية لا تموت حتى تبغي بمائة رجل، ويتزوج بها أجيرها، ويكون موتها بالعنكبوت.
فقال الأجير في نفسه: فأنا والله ما أريد هذه، بعد أن تبغي بمائة رجل لا قتلنها، فأخذ شفرة ودخل فشق بطن الجارية، وهرب على وجهه فركب البحر، وخيط بطن الجارية، وعولجت فشفيت، وطلعت من أجمل النساء في عصرها، وكانت تبغي فأتت ساحلاً من سواحل البحر، وأقامت هناك تمتهن البغي.
ولبث الرجل ما شاء الله، ثم قدم قرية على الساحل، ومعه مال كثير، فقال لامرأة من أهل تلك القرية على هذا الساحل، أحبّ الزواج، فابحثي لي عن امرأة في قريتكم لأتزوجها.
فقالت: هاهنا امرأة من أجمل النساء، ولكنها بغي، فقال: ائتني بها؟ فأتتها فقالت: قدم رجل له مال كثير، وقال لي: كذا وكذا، فقلت له: كذا وكذا.. فقالت: إنني قد تركت البغاء، وتبت إلى الله ولكن بعدما تخبريه عن حالي، إن أراد تزوّجته.
قال الراوي: فوافق الرجل، ثم تزوجها، فوقعت منه موقعاً عظيماً، وأحبها حباً شديداً، فبينما هو يوماً جالس معها يتحدّثان فأخبرها بأمره، فقالت: أنا تلك الجارية.. وأرته الشقّ في بطنها، ثم قالت: وقد كنت أبغي، فما أدرى بمائة أو أقلّ أو أكثر وقد تبت إلى الله.
فقال لها: فإن الرجل الذي رأيته بالباب، قد قال لي: يكون موتها بالعنكبوت، فبنى لها برجاً في الصحراء وشيده فبينما هو وإياها في ذلك البرج يتحدثان، لمح عنكبوتاً بين أخشاب السقف، فقال لها: هذا عنكبوت.
فقالت: هذا يقتلني لا يقتله أحد غيري، فحرّكته فسقط، فأتته فوضعت إبهام رجلها عليه فشدخته، فساح سمه بين أظفارها ولحمها، فاسودت رجلها وماتت، وصدق الله في القول الكريم: {أَيْنَمَا تَكُونُواْ يُدْرِككُّمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنتُمْ فِي بُرُوجٍ مُّشَيَّدَةٍ وَإِن تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ يَقُولُواْ هَذِهِ مِنْ عِندِ اللّهِ وَإِن تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَقُولُواْ هَذِهِ مِنْ عِندِكَ قُلْ كُلًّ مِّنْ عِندِ اللّهِ فَمَا لِهَؤُلاء الْقَوْمِ لاَ يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثًا} (78 سورة النساء). (الدميرىّ، 2: 165).