قديمًا قيل إن الحكمة يمانية، لكن المتابع لما يجري في هذا البلد العربي المجاور سوف يرى أن هذا المثل قد عفا عليه الزمن وأن الحكمة قد غابت إلى غير رجعة. منذ انجرف اليمن في دوامة المطالبة بالتغيير وابتعاد الرئيس علي عبد الله صالح عن المشهد، أو هكذا يبدو لنا، واليمنيون لا يتوقفون عن الاندفاع إلى الشوارع في مشاهد تكاد تقترب من العبثية.
بعد سقوط أعداد كبيرة من الضحايا ووصول البلاد إلى حالة من الشلل، لا يبدو أن هناك نهاية للخروج من هذا النفق بعد دخول لاعبين خارجيين وداخليين لا يريدون الخير لهذا البلد.
ليست هذه هي المرة الأولى التي يمر بها اليمن بهذا المخاض العسير، فالتاريخ مليء بالأمثلة، لكن التاريخ لا يحتكم له دائمًا لاختلاف المتغيرات.
في قصة ملكة سبأ مع النبي سليمان عليه السلام قبل آلاف السنين كان صوت العقل حاضرًا في التعامل مع التهديد الخارجي. امرأة لا تتفرد باتخاذ القرار بل تطلب الرأي والمشورة من أصحاب العقد والربط» يا أيها الملأ افتوني في أمري هذا ما كنت قاطعة أمرًا حتى تشهدون». بقية القصة معروفة بعد أن ترك هؤلاء لملكتهم حرية اتخاذ القرار، فنجحت في تجنيب بلادها ويلات الحروب.
يومها كان اليمن سعيدًا وظل سعيداً لعقود طويلة إلى أن جاء من كفر بأنعم الله، {فَأَذَاقَهَا اللّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ} وانهار سد مأرب بفعل فأرة، كما يقال.
اليمن هي البلد التي يعتقد أنها أول من شهد أول جريمة في تاريخ البشرية حيث قتل ابنا آدم - قابيل وهابيل- أحدهما الآخر في أول نزاع على المصالح. هناك سفكت أول قطرة دم، فنبتت شجرة دم الأخوين لتظل شاهدّا على الجريمة وعلى قسوة الإنسان لأخيه الإنسان. وهي أيضّا بلاد أصحاب الأخدود، وهي التي عانت من احتلال الفرس والإنجليز وظلم الإمامة وثورة السلال والاستعانة بالقوات المصرية، وهي البلد التي جربت الاشتراكية والرأسمالية ولم تحقق أيًا منهما وظلت القبائلية طاغية. وهي البلد الذي اقتلعت فيه شجرة البن التي تغنى بها الشعراء ليزرع مكانها القات الذي ينشر الخدر في أجساد شعب اليمن الفقير.
لقد طالت مشكلة اليمن لأن هناك من يتلاعب بشعبه البسيط الذي خرج إلى الشوارع مطالبّا بحقوق مشروعة ليجد نفسه في نهاية المطاف على مفترق طرق لا يدري أيها يسلك.
عندما نتحدث عن اليمن فلأننا نتألم لما يجري فيه، فهو بلد ملاصق لنا وما يحدث فيه سوف يصل رذاذه إلينا. لقد ظل هذا البلد منبعّا لهجرات القبائل التي أثرت النسيج الاجتماعي في جزيرة العرب وبلاد الشام منذ أن من الله على شعبها بالإسلام، وهي البلد التي انطلق منها دعاة نشروا الدين الاسلامي في جنوب شرق آسيا وإفريقيا.
اليمن ليس بحاجة إلى القاعدة التي استباحت دماء اليمنيين باسم الاسلام، فإذا كان من المبرر لهذا التنظيم أن يقاتل السوفييت الملحدين والقوات الغربية الكافرة، كما يقول منظّروه، فما الذي يبرر قتل المسلمين في اليمن؟ كيف يكونون صادقين في أنهم يعملون لخدمة شعب اليمن وهم يعبثون بأمنه واستقراره وحياة أبنائه.
في الجانب الآخر، وجد عملاء إيران فرصتهم للانقضاض على ما تبقى من ركام اليمن سعيًا وراء أوهام لا وجود لها إلا في عقولهم المرتهنة إلى إملاءات أصحاب العمائم في طهران وقم الذين يستخدمونهم، كما استخدموا حزب الله اللبناني، كمخلب قط في إثارة الصراعات الإقليمية من أجل تحسين صورة النظام الإيراني أمام الدوائر الغربية.
وأخيرًا، وبعد انتظار طويل، دخل مجلس التعاون الخليجي على خط الأزمة اليمنية بعد أن أخذ الوضع يخرج عن السيطرة، لكن هذا المجلس بلا مخالب، بل له مخلب لا يريد استخدامها، ولا يملك سوى الأمنيات، والأمنيات لا تغير الواقع، إذ يستحيل أن يساعدك الآخرون إذا لم تكن مستعدّا لمساعدة نفسك.
لقد كان اليمن يسمى باليمن السعيد، لكنه أبعد ما يكون عن السعادة، فمتى نسمع صوت العقل بدلاً من الاستمرار في الاحتكام للعبة البنادق والخناجر؟