في الحقائق التي ظهرت مؤخرا حول حقيقة ما حدث في اتفاقية برتن وود عام 1944م، وما فعله الأمريكي هاري وايت لتمرير معاهدة ربط العملات بالدولار، مثال شامل ذو عبرة ودروس في فنون التفاوض، لكل ما يمكن أن يحدث من ألاعيب في الاجتماعات واللجان . فالتعليمات الأساسية من روزفلت والهدف الأمريكي كان يتركز على إقصاء بريطانيا عن أي تحكم تجاري عالمي أو عن أي دور نقدي دولي. وأما شكل النظام وفنياته فلم تكن واضحة لأحد إلا في رأس وايت. فلا يهم من هو رئيس المفاوضات أو اللجان أو الأعضاء، فقد لا يكونون إلا صوراً أو مطايا ولو تظاهروا بغيرها فتُطبخ الطبخة من تحتهم. فوزير المالية الأمريكي ورئيس الوفد الأمريكي في المؤتمر لم يدركوا حقيقة أبعاد ما فعله وايت، إلا أنهم وافقوه من أجل غرض إقصاء بريطانيا.
فهاري وايت قد حضر المؤتمر كمستشار في اللجنة الفنية للوفد الأمريكي وبغير أي مسمى مُشارك في المؤتمر الدولي. ولكنه استطاع أن يقود المؤتمر بمن فيهم الوفد الأمريكي للتصديق على المعاهدة التي صممها من ألفها إلى يائها. وقد أُبعد وايت عن المشاركة الرسمية في الوفد. فبالإضافة إلى حدة طباع وايت، فقد سبب عليه ذكاؤه تصادمه مع الآخرين وجلب له الغيرة وحسد الأقران وغير الأقران، وجلب نقمة الخلاف عليه.
وقد كان كينز البريطاني المعقود باسمه تصميم المعاهدة ، هو هم وايت. فالوفود كغالب أعضاء اللجان. تتكون من أربعة أصناف من السلوك الشخصي . الأول المغفل وهو لا يدري أنه مغفل، وغير المكترث والجاهل البليد. والرابع النرجسي والخامس المدبر المحرك للاجتماع. وكينز كان هو المدبر في المؤتمر، والذي يريد لبريطانيا أن تشارك في التحكم العالمي للتجارة والمال. وتوقيع كينز وبالتالي بريطانيا وتصديقه على المعاهدة سيذلل مهمة تصديق بقية الدول. وقد استخدم وايت أسلوبا مُمارسا كثيرا اليوم لتمرير العقود والاتفاقيات في غالب اللجان والاجتماعات.
تجنب وايت ذكر الدولار مطلقا، وحرص على إشغال وقت اللجان الفنية بأحاديث ونقاشات وخلافات هامشية لإضاعة الوقت. وركز على النقطة المتفق فيها مع كينز وهي تجنب إعادة ربط العملات بالذهب وربطها بدلا من ذلك بعملة جديدة يتحكم بها بنك مركزي دولي جديد، كان كنينز يريد أن يجعل موقعه في لندن. فقام وايت بعمل صندوق النقد الدولي، وكتب مفهوم آليات كينز في ربط الدول عملاتها بالعملة الجديدة ولكنه لم يحددها «بالبنككور» العملة الجديدة التي يريدها كينز أن تكون مرجعا للعملات الأخرى.
وبدلا من ذلك ركز وايت في النقاشات وفي كتابة الوثائق على عبارة « عملة قابلة للتحويل للذهب». وفي أحد الاجتماعات الفنية قام مفوض الوفد الهندي فاعترض على هذه الضبابية قائلاً: «لو يشرح لنا الأمريكان ماذا يعني عملة قابلة للتحويل إلى الذهب» فأجابه رئيس اللجنة المفوض البريطاني -ظانا أنها مسألة هامشية- «إنها مسألة مُحاسبية ، كالدولار مثلا، ولتحول المسألة إلى اللجنة المحاسبية» وهذا ما كان يريده وايت. فقامت اللجنة المحاسبية بتغيير كل الوثائق الرئيسة وابدلت عبارة «عملة قابلة للتحويل للذهب» بكلمة الدولار. (والمفوض البريطاني مثال على المغفل أو النرجسي الذي ربما سمع في إحدى جلسات إيحاء وايت أن أمريكا تتمتع بأعظم احتياطي ذهبي وتستطيع دعم العملة الجديدة التي يقترحها كينز. وأما المفوض الهندي، فمثال على كبت المستضعف في الاجتماعات والايهام للمجموعة بأنه لا يفهم، عندما ينطق بما يخالف الهدف، بينما يُفتح المجال لأحاديث عامة أو غيرها لإضاعة الوقت). (وقد كان وايت قبل ذلك يجتمع مع الوفود كل وفد على حدة ولا يتعارض مع أي أحد. وكان يعطي كل وفد ما يريده بهندسة معاني المعاهدة لتصب في مراد الوفد. فمثلا صور للروس - المنتجين للذهب-، أن الذهب سيعلوا شأنه بسبب المعاهدة لربط العملات بالعملة - المقترحة من كينز- القابلة للتحويل للذهب).
وهناك الكثير من الحوادث التي ساعدت وايت، لا أتخيل أنها صدفة كما ذكرت الحقائق المفرج عنها حديثاً، بل هي من المساعدات التي زُود بها لتحقيق غرض أمريكا الأساسي وهو إقصاء بريطانيا. كنقصان التموينات في الأيام الأخيرة ونحوها، كآلية ضغط على الوفود لتمشية الأمور. (وهذه تحدث في اللجان عادة ، يأتون بالأمور المهمة في آخر الوقت لكي يمررون القرارت، لكي لا يخرج عضو باعتراض لا يمكن دحضه).
وكمرض كينز وسقوطه وهو يركض ليلحق بالاجتماع المحاسبي الأخير، ومرضه قبل ذلك عدة مرات. وكإشغاله بلجان هامشية أخرى في نقاشات البنك الدولي وغيره، عن مشاركته لنقاشات كثيرة، لعب فيها وايت ألعابه على الوفود وأوهمهم بما يريدونه من غير كذب عليهم، بل بهندسة معاني الكلام. فلا شك أن كينز قد أُمرض وأُشغل، ولا شك أن الوفود لا تخلوا من الرجال الذين لا تُمرر عليهم الأمور. ولكن لعل بعضهم تم ترضيخه كالألمان، وبعضهم وُسع خاطره، وبعضهم اُستغفل، وبعضهم أُلهي بزيارة خاصة مستقبلية لمنتجعات أمريكا أو طُمع بحاجة أمريكا له في صندوق النقد وهكذا.
وخطة التصديق على المعاهدة كانت تعتمد على أن أعضاء اللجان لا يقرأون، وأنهم أكثرهم تابع لا مستقل، والجميع يتبع كينز، وكينز لم تُعرض عليه المعاهدة إلا في الجلسة الأخيرة، فاضطر أن يصادق عليها ويباركها دون قراءتها، اعتقاد منه بأن أساسها الجوهري لا يختلف عن مقترحه. وما درى هو ولا أحد من الوفود حتى الوفد الأمريكي -ما عدا وايت - أن تلك الجلسة - على حد تعبير المؤلف- قد توجت الدولار على عرش العملات ومن ثم أطاحت بالذهب. ( والإطاحة بالذهب، لم يكن يُدركها أحد حتى وايت ).
ما حدث في برتن وود يحدث يومياً في اللجان والاجتمعات، وكلما عظم شأن الاجتماع كلما عظمت الحيلة معه واستخدام الاساليب الخبيثة.
ولنا عودة مع هاري وايت، فقد ضرب أمثلة كثيرة ومنها أن الأيدلوجية أقوى من أي نسب ووطن، وأنها تبرر الخيانة وتجملها.