كنا نعرف قديماً، ومن خلال الأفلام المصرية على سبيل المثال، أن الذي ينضم إلى جبهات ضد الحكومة هم ممن يعيشون في قاع المجتمع، تلك العائلات الفقيرة التي لا يستطيع أولادها الالتحاق بالجامعات أو الكليات العسكرية، حتى لو كانت معدلاتهم تشفع لهم بذلك، لكن الوسط الاجتماعي لا يقبل طالباً فقيراً يدرس في الطب أو الهندسة، أو أن يصبح ضابطاً عسكرياً، ولعل من أبرز تلك الحالات فيلم أو رواية عمارة يعقوبيان، التي تدين الفساد، وتفسر جذور الإرهاب شيئاً ما، حتى وإن اختلفنا مع تبسيط هذه الرواية للواقع الاجتماعي.
ما شاهدته قبل يومين، من مقطع يوتيوب سجلته المخابرات العراقية، مع شاب سعودي من مواليد 1996م، أي أنه في الثامنة عشرة تقريباً، ومن أسرة تتكون من سبعة إخوة وأخوات، أحد إخوته معلم، والآخر يحمل شهادة الدكتوراه، يمتلك سيارة، ويدرس في السنة الأولى من كلية الشريعة بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية، ثم قرر أن يلتحق بقوات داعش في رمضان الماضي، سافر من الرياض إلى الكويت، ومنها إلى اسطنبول، ثم استلمه شخص هناك، وركب سيارة فان مع شباب صغار من دول أخرى، إلى طرابلس، وأخيراً التحق بمعسكر إعدادي في مدينة الرقة بسوريا، حتى جاءهم الأمر بالالتحاق بكتيبة لتحرير بلدة مروانة في العراق، حتى انهالت عليهم الصواريخ وتلقوا أمراً بالانسحاب، لكنه أصيب هو وزميل تونسي، الذي مات بعد نهار من إصابته الخطيرة، أما الشاب السعودي فاعتقلته كتيبة عراقية كانت تمشط المنطقة، وذلك بعد استسلامه!
الغريب هو تلعثم الشاب الصغير بعدما قال إنهم تلقوا أمراً لتحرير مروانة، وسأله العراقي: تحررها ممن؟ من العراقيين؟ ثم بدأ الشتم على الشاب وشيوخه، وهو يقول إن العراقيين هم من يحمون حرائر العراق وهم من يحمون العراق!
طبعاً هذا الشاب قاده إلى مواقع الصراع شخص سعودي ذكر اسمه، وذلك عن طريق الإنترنت، ونحن نعرف أنّ الإنترنت أصبح وسيلة سهلة للوصول إلى الشباب، وغسيل أدمغتهم، والتغرير بهم، وتسهيل توريطهم بالسفر، والانضمام إلى هذه التنظيمات الجهادية، ولعل هذا النموذج وغيره، لا يعانون من شظف العيش، أو الاضطهاد من قِبل حكوماتهم، وإنما هم في ظروف حياتية جيدة، كي يصبحوا مستقبلاً عناصر مهمة في التنمية والتطوير، وليست حكاية الطبيب السعودي الذي ترك مهنته وعائلته كي يلتحق بصفوف داعش، بعيدة، وقد حدثت قبل شهرين تقريباً، وغيره كثير من شباب الوطن الذين وقعوا في هذه التنظيمات الحزبية!
ما الأمر إذن، كيف نقاوم هؤلاء الذين ينتشرون في الإنترنت بأسماء حركية، كخفافيش الظلام، وهم يغررون بصغار السن ومحدودي الوعي، دون معرفة أولياء أمورهم، كيف نحمي شبابنا من هؤلاء؟ هذه الأسئلة لن أجيب عليها بشكل نمطي، مكرر، وإنما نحتاج فعلاً استراتيجية وطنية كاملة تحمي هؤلاء، تستشرف احتياجات الشباب، تضيء قلوبهم بالإرادة والتحدي وحب العمل، والشعور بالمسؤولية تجاه وطنهم، استراتيجية تقترح ملء أوقات فراغهم بمختلف أوجه الترفيه، نحن فعلاً نفتقد أماكن الترفيه للشباب، كالملاعب المفتوحة للجميع، بمختلف الألعاب الرياضية، دور السينما، المسرحيات... إلخ، بدلاً من وضعهم أمام حلين لا ثالث لهما، إما السهر في الاستراحات، أو البقاء أسرى لهذه المواقع المشبوهة، التي تغرر بهم، وتعصف بعقولهم الصغيرة غير الناضجة!