حكت لي سائقة التاكسي في زيارتي الأخيرة لبرزبن في أستراليا قصة شغلتني كثيراً. عن سبب حرمان طليقة زوجها من حضانة الأولاد. قالت إنه ذات يوم اندلع صوت صافرة الإنذار من بيت الزوجة واستمر منطلقا للحد الذي حضرت فيه الشرطة لطرق الباب مرارا ولكن دون إجابة. مما دعا المزيد من رجال الشرطة للمجيء لموقع الحادث، ومن ثم اقتحام البيت. لم يجدوا حريقاً أو ما يستدعي انطلاق صافرات الإنذار ولكنهم وجدوا الزوجة في حالة ذعر عارمة محتضنة الأبناء ومختبئة تحت طاولة الطعام.. ثم قالت السائقة: كان خللاً في جهاز الإنذار لكنها مصابة بالشيزوفرنيا، لم تتمكن من رعاية الأطفال أو حمايتهم!
ما الذي يدفعنا للنجاة؟ ما الذي يبقينا آمنين وبعيدين عن المخاطر؟ إننا نتخطى العقبات والكوارث والمخاوف بغريزتنا، الأمر الذي يحدو الطائر لتحريك جناحية بحثا عن قوت ما، أو الدجاجة لحفر الأرض بقدمها، الشمبانزي لاستخدام الأعواد للوصول للحشرات البعيدة والإنسان لعلاج إصابته، أو توفير الغذاء والماء والمسكن، أو الهروب من مصدر الكوارث. إنها غريزة البقاء التي يؤدي تطوير مهاراتها (مهارة البقاء - Survival skills) لنجاة الكائن، حيث إن البقاء جبلة في الإنسان، ليست بحاجة للتعلم بقدر ما هي قابلة للتطوير والعناية أو العكس بأن تتعرض لحالة تعتيم وتضليل.
يقول الفيلسوف البريطاني «برتراند راسل»: لا يولد البشر أغبياء، بل جهلة. التعليم يجعلهم أغبياء. فإذا كان تطور آليات مهارة البقاء مؤشراً للذكاء علينا أن نؤكد أن تقهقرها مؤشر واضح للغباء أو القصور الذهني. فبعض مناهج التعليم أو الأساليب التربوية في المنزل تبث مفاهيم مغلوطة حول الاحترام والتواضع والبر، بحيث تختلط مع الذل والاستسلام والخنوع. فتُشوش بصيرته وتتكدر رؤاه. وبدلاً من المبادرة بالنجاة يتردد الشخص الواقع في مواجهة المخاطر والأذى. ويصاب بارتباك يعيق قراراته في معالجة الأزمة.
ولربما هذا ما حدث لطالب مكة في الفيديو الذي أثار ضجة إعلامية منددة بالمعلم الذي ضربه بسوط الخيول. وقد أثار سلوك المعلم انزعاجاً كبيراً عبّر عنه الكثيرون عبر تويتر ومواقع التواصل الاجتماعية. وقامت إدارة التعليم بمنطقة مكة المكرمة بفصله لمخالفته قرار وزارة التربية والتعليم «منع الضرب في المدارس».
لكن أحداً لم يركز على سلوك الطالب الذي استسلم لجلدات السوط بكل استكانة وخنوع. مما دفعني للتساؤل عن السبب الذي لم يحرك الطالب للدفاع عن نفسه أو اتقاء ما وقع عليه من عنف ووحشية؟! أين ذهبت غريزة البقاء، من الذي شوشها وأعاق عملها الطبيعي؟ ومما يضاعف الأسئلة عمقاً ما وجدته في الفيديوهات الرديفة في اليوتيوب عن طالبة أجنبية تتعرض للضرب من معلمها فتقوم بردة فعل سريعة عبر ركله ومن ثم اللوذ بالفرار سريعاً. إن غريزة البقاء لدى الطفلة وطالب مكة هي ذاتها لكن الطفلة لا بد أنها لقيت دعماً وتطويراً من خلال تعلم آليات الدفاع عن النفس والتوعية بحقوقها الأمنية.
أما الآخر فتم تعتيم بصيرته وسلبه قرار إنقاذ نفسه ولم يزود بالتبصرة الكافية لحقوقه وصلاحياته إذا ما تعرض للعنف والأذى! وهذا ما أود إيصاله لوزارة التربية والتعليم: إن فصل المعلم عمل جيد لكن المشكلة الرئيسية ستبقى طالما تغيب عن مناهجنا دروس الدفاع عن النفس والإثراء الحقوقي معاً.. يقول مصطفى محمود: «إذا نزل مؤمن وكافر إلى البحر فلا ينجو إلا من تعلم السباحة، فالله لا يحابي الجهلاء فالمسلم الجاهل سيغرق والكافر المتعلم سينجو».