لم نختلف يوماً أن الناس شهود الله في أرضه وأن الإنسان الإيجابي، حتى ولو لم يُبرز الإعلام جهوده وعطاءاته لخير هذا الوطن المعطاء، فإنّ عمله لن يضيع ويذهب سدى، بل سيبقى وسيظهر حتماً يوماً ما على أشكال وأوضاع متعددة وبفضل الله سينال نصيبه وحقه من التقدير والثناء والعرفان بمعروفه، فالمجالس مدارس وفيها يتناقل الركبان أخبار الرجال الناجحين الإيجابيين الذين وفقهم الله للقول والعمل الصالح، فالناس لا تغمط الأوفياء والمخلصين حقوقهم، وبما أن أحد هؤلاء الشهود لا تربطه بالمشهود له أي علاقة عمل أو زمالة مهنة أو صداقة أو معرفة أو قرابة، وإن كانت كلها تشرف الشاهد إن حصلت أو حصل شيء منها، خاصة وأنه لا يطلب منها إلا وجه الله في تخليد ذكرى لرمز وطني قدم لوطنه الكثير حتى قضى نحبه وهو في الميدان وفي موقع العمل فهي للتاريخ .
وفي تاريخ 23-10-1435 للهجرة الشريفة المباركة، ودعنا معالي الفريق زميم بن جويبر السواط مدير عام حرس الحدود من على كرسي الشرف وحماية حدود الوطن من مكتبه في المديرية العامة لحرس الحدود، وودعتنا الإيجابية بأسمى مراتبها ومعانيها والوطنية وبأصدق نياشينها، وأصيب الرجل المدني فيه أكثر مما أصيب الرجل العسكري وإن كان كلهم مواطنين وقبلهم أصيب الوطن بفقد أحد رجاله، كما انني أصبت فيه مثلما أصاب في قريب غالٍ أو صديق عزيز أو معلم قدوة أو مربٍّ مخلص أو قائد ملهم، ارتبطت به في سلك العمل لأنني مثل القارئ الكريم أفتقد الإيجابية إذا رحل أهلها والوطنية إذا ودعنا قائد من قادتها، وحب الخير إذا افتقدنا أحد روّاده، وأنا على يقين أنّ مواطني هذا البلد الكريم يحبون هذا الرجل، رحمه الله رحمة واسعة وأسكنه فسيح جنته وجعله مع الشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقاً، لأنهم لم يروه إلاّ مدافعاً عن حدود وطنهم الشاسع ويذود عنهم بنفسه ويمنحهم وقته وجهده ويصدق مع الله ومع ولاة أمره. وكنت أسأل نفسي ما الذي أسال حبر قلمي لأكتب عن إنسان لا أعرفه؟ ما الذي أثارني ودفعني لأهتم بسيرة هذا الرجل؟ إنه بالتأكيد العمل الصالح والصدق والإخلاص والأمانة التي تحلى بها الرجل، إنه الغراس الطيب والصادق الذي أثمر وأينع، إنه السيل النافع الذي يبقى بما ينفع الناس أينما وقع، كذلك إنه الخلق الحسن والذِّكر الطيب والأخلاق الحميدة التي ستبقى رصيدًا لصاحبها حتى وإن رحل الجسد وغاب وتوارى عنا، فجوهره ومعدنه الأصيل وروحه باقية تطوف بيننا تذكِّرنا بمحاسنه ومنجزاته وأفعاله الخيّرة، وهذه وبكل تجرّد حياة جديدة لا يعمل لها الكثير من القيادات، فالمرء له حياتان يعيشها وتعاش معه.
لقد وجدتني مأسورًا بسيرة هذا الرجل وتحدثني نفسي عنه كثيراً، ولقد أخذ ولا زال يأخذ حيزاً من تفكيري ولم استطع تجاوزه، حتى أسطر ما ينتابني من شعور تجاهه وتجاه كل إنسان إيجابي ترك بصمة وأثراً لخير هذا الوطن، ولعلني أستطيع فالذي في الخاطر مما سمعت تعجز حروفي وكلماتي عن ذكره. وكثير من الناس يعليهم المولى عز وجل ويرفع شأنهم ويمكنهم ويعزهم في الدنيا والآخرة أحياءً وأمواتاً، بسبب طاعتهم لله عز وجل ثم بسبب أعمالهم الصالحة ورضى الوالدين وصدقهم مع أنفسهم ومع ولاة أمرهم وإخلاصهم ونزاهتهم، ورغبتهم الصادقة في أن يكونوا مواطنين حقيقيين وأهل عطاء، هذا غير نخوتهم وحبهم للمبادرة والتميز في صنع إنجاز وطني يخدم به الآخرين، ليكون سبباً في سعادتهم وسبيلاً لرضى داخلي يفتقده غير الصادق مع نفسه ومع ربه ومع الآخرين.
فقد روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه: قِيلَ لِه أَرَأَيْتَ الـرَّجُلَ يَعْمَلُ الْعَمَلَ مِنْ الخير ويَحْمَـدُهُ النَّاسُ عَلَيْهِ قـالَ: (تِلْكَ عَاجِلُ بُشْرَى الْمُؤْمِنِ) وقال النووي رحمه الله: «قَالَ الْعُـلَمَاء :مَعْنى هَذِهِ الْبُشْرَى الْمُعَجَّلَة لَهُ بِالْخَيْرِ، وَهِيَ دَلِيل عَلَى رِضَاء اللَّه تَعَالَى عَنـْهُ، وَمَحَـبَّته لُه، ويحببه إِلَى الْخَلْق كَمَا سَـبَقَ فِي الْحَدِيث، ثُمَّ يُوضَع لَهُ الْقَبُول فِي الْأَرْض. وقال ابن الجوزي رحمه الله «والمعنى: أنّ الله تعالى إذا تقبّل العمل أوقع في الـقلوب قبول العامل ومدحه، فيكون ما أوقع في القلوب مبشر بالقبول، كما أنه إذا أحب عبداً حببه إلى خلقه وهم شهداء الله في الأرض «، وهذا والله ما ندين الله به للفريق زميم السواط رحمه الله تعالى رحمة الأبرار وخلفه في أهله بخير، وجعل فيمن تدرب على يديه نماذج من خلقه وإخلاصه وهمّته وصدقه وحيويته ووطنيته فقد كان قدوة.
ولقد تشرفت بالعديد من العلاقات مع الإخوة العسكريين أقارب وأصدقاء وزملاء متطوعين في الجمعيات الخيرية وجمعتنا ببعضهم مهام عمل، ومنهم رجال من منسوبي حرس الحدود، فيسألوني عن سر التأثر والحزن الذي انتابتي بسبب وفاته رحمه الله، وقلت إنها المحبة في الله التي لا أشك أنها نزلت في قلوب العامة لأن الله سبحانه وتعالى يحبه، ويقول جل في علاه في مثله {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَنُ وُدًّا} (سورة مريم 96)، كما ان محبتي له امتثالاً لقول الصادق الأمين نبينا محمد عليه أفضل الصلاة والتسليم ((إِذَا أَحَـبَّ اللَّهُ الْعَبْدَ نَادَى جِبْرِيل: إِن اللَّهَ يُحِبُّ فُـلَانًا فَـأَحْبِبـْهُ فَيُحِبُّـهُ جِبْرِ يلُ، فَيـُنَادِي جِبْرِيلُ فِي أهل السَّمَاءِ: إِنَّ اللَّهَ يُحِـبُّ فُلَانًا فَأَحِبُّوهُ فَيُحِبُّهُ أَهْلُ السَّمَاءِ، ثُمَّ يُوضَعُ لَهُ الْقَبُـولُ فِي الْأَرْضِ)) وسبحان من بيده ملكوت السموات والأرض.
والحديث عن سيرة الرجل العطرة يطول، لأنه يصنّف من رجال الإنجاز والمقدرة على تجاوز الصعاب والمعوّقات، وله يدان بالفضل في حرس الحدود عندما كان مديراً عاماً للصيانة أن تبنّى إنشاء طريق حدودي معبّد ومسفلت من الخفجي شرقاً على الخليج العربي حتى محافظة حقل غرباً على خليج العقبة، مشكلاً حزاماً أمنياً على الحدود السعودية الشمالية، وكذلك طريق آخر على الحدود الجنوبية من جازان غرباً حتى الخرخير شرقاً، على أحدث المعايير والمواصفات العالمية وبطول يتجاوز ثلاثة آلاف كم، وكل ذلك كان بمجهودات ذاتية من ضباط وأفراد حرس الحدود، متجاوزاً كل الصعوبات الجغرافية والتضاريس الوعرة من هضاب وجبال وسهول ورمال وطقس حار في الغالب، مما ساهم في نقلة نوعية في قدرات وإمكانيات حرس الحدود في التعاطي مع عمليات التهريب والتسلل، ووفرت هذه الطرق الكثير من القدرات المادية والبشرية والعربات والآليات وسهلت الكثير من الوقت في توصيل الإمدادات بأقل الجهود، كل هذا الإنجاز العظيم بميزانية محدودة من ميزانية حرس الحدود ولم يكلف الدولة رعاها الله مبالغ إضافية، ولقد أثنى سلطان الخير رحمه الله تعالى على هذا المشروع وقال (لقد أتى لوزارة الطرق من ينافسها) وذلك بحضور الدكتور ناصر السلوم وزير الطرق آنذاك، ولقد حاز هذا المشروع على تقدير الأمير نايف بن عبد العزيز رحمه الله، وكذلك سمو وزير الداخلية الأمير محمد بن نايف حفظه الله، وكذلك كان محل تقدير وزارة النقل التي كانت تعتبره مشروعاً وطنياً غير مسبوق، لأنه قد أصبح أماناً للوطن ستذكره الأجيال به وسبيلا للمحافظة على الحدود، وترك بذلك للأجيال ما يستذكرونه به في الإنجاز بصدق وعزيمة وإصرار.
ولقد سبقني بالحديث عن علاقته بربه العديد من الكتّاب الذي خلّدوا جزءاً من سيرته وذكروا أعماله الخيرية والتطوعية داخل المملكة وخارجها، ولذا زاد التعلُّق به وضرورة أن يخلد اسمه مثلما تعوّدنا من مقام وزارة الداخلية الوفية ووزيرها الموفق، وأقترح أن يُطلق اسمه رحمة الله عليه على أحد المراكز الحدودية أو أحد القاعات الرئيسية في القيادة مع ضرورة تدوين سيرته على شكل كتاب، وخير من يتولى ذلك إدارة العلاقات العامة والإعلام في المديرية العامة لحرس الحدود، كما يفضل أن تدرس سيرته وإنجازاته وأسلوب إدارته في الدورات التأهيلية الدورية أو يعقد ورش عمل في مراكز الحدود ليطلع جميع ضباط القيادة وأفرادها على إنجازات الرجال، وكيف هي قيمة القيادي صاحب البصمة والعطاء للوطن والمواطن، وإن رأت قيادة حرس الحدود أن يتبنوا مشروعاً خيرياً يشارك فيه من يرغب لبناء وقف خيري لإحدى الجمعيات الخيرية ويسمّى باسمه، أو على مسجد أو وحدة غسيل كلوي بأحد المستشفيات الحدودية، أو الترتيب مع مستشفى قوى الأمن الداخلي في دعم بعض الاحتياجات الطبية وتسميتها باسمه رحمة الله تعالى عليه.
ختاماً،, نحن جميعاً نأخذ معالي الفريق زميم السواط مثالاً على الإيجابية ونذكره بها في حياته وبعد مماته، محاولين أن نستنسخ الإيجابية في كل القيادات المدنية والعسكرية وعليهم أن يعملوا لهذه اللحظة وأن يقدموا لأنفسهم خيراً طالما الناس شهود الله في أرضه، لأنّ إنجازهم سيذكر لهم إن أحياء أو أمواتاً وستبقى السيرة عطرة مرهونة بصاحبها بما أنجزه، أما غير ذلك فلن يتعدى الأمر خبر الوفاة وأيام العزاء وإن لم تذكر السيئات فليس من حسنات تذكر إلا لأهل الإنجاز وقادة الوطنية ومن يملكون حب العطاء لهذا الوطن الكريم وأهله، فالتاريخ لا ينسى وإن لم يدوّن أهل الإنجاز إنجازهم فللوطن حق على مواطنيه ولمواطنيه واجبات على بعضهم، وشواهد العصر لا تظلم المخلصين والصادقين والأوفياء، بل يستذكرهم الناس بعد سنوات من رحيلهم وتستمر لهم الحياة والذِّكر والدعاء.