عرفتُ الشيخ محمد نسيب الرِّفاعي - رحمه الله - منذ أن وصلتُ إلى عَمَّان عاصمة الأردن خادمًا للدعوة السعودية ودعاتها في بلاد الشام المباركة المقدسة، وكان هو أحد دعاة رئاسة البحوث والإفتاء في عهد الشيخ ابن باز - رحمه الله - (خير من جمع الله له العلم والعمل والخلق في هذا العصر).
والشيخ نسيب الرفاعي لا تخطئه العين ولا الأذن؛ أعطاه الله بسطة في الجسم والعلم (مثل طالوت عليه السلام) وأعطاه بسطة في اللسان وفي الجَنان، وأعطاه خيرًا من ذلك كله صحة المعتقد وصحة المنهاج، والرغبة الملحَّة في الدعوة إلى الله على بصيرة من الكتاب والسنة.
وكان قبل اختياره الإقامة في عَمَّان في خدمة الدعوة السعودية رمزًا للتدين والدعوة على ما كان عليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه - رضي الله عنهم وأرضاهم - في حلب ـ عاصمة التصوف والابتداع في سورية ـ وكان للمتصوفة خاصة والمبتدعة عامة صولة ومنعة قبل ولاية حزب البعث، لأن المتصوفة ينتمون إلى أهل السنة مثل حكام وعلماء سورية، والأغلبية منهم جميعًا بعيدون عن منهاج السنة؛ أما حزب البعث فاهتمامه عروبي (أمة عربية واحدة) ولا يذكر الدين في دستوره العَفْلقيِّ بخير ولا شرٍّ، ولذلك تنفَّس المنهج السلفي لأول مرة منذ عصر ابن تيمية وتلاميذه، وكثر عدد المنتمين للسلفية أكثر من أي وقتٍ مضى (بعد الأُمويين)، على الرغم من تحريض البوطيِّ المنتمي إلى السنّة ادّعاءً وإلى الفكر واقعاً.
1 - كابد الشيخ نسيب الرفاعي لجاج الخرافيين والقبوريين والمبتدعة والصوفية وصبر على أذاهم مستجيبًا لأمر الله تعالى:{وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ} [العصر: 3]، وقصَّ أكثر من قصة لم يبق في ذاكرتي منها غير أنه: صلى في مسجد كان عبد الفتاح أبو غدة (مرشد حزب الإخوان المسلمين في سورية بعد ذلك) تجاوز الله عنه يلقي فيه درسًا، وسمعه يفتري على الإمام محمد بن عبدالوهاب - رحمه الله - مجدد الدين في القرن (12) أنه يقول: (عصاي هذه خير لي من محمد!) أي النبي - صلى الله عليه وسلم -، فسأله عن عنوان الكتاب الذي قال فيه ابن عبد الوهاب ذلك؟!، فما كان من أبي غدة إلا أن أثار عليه المبتدعة بقوله: (صِرت ذنبًا للوهابية)!، ثم إن أبا غدة ـ تجاوز الله عنه ـ عمل بالمثل السوري: (غيِّر الشكْل من أجل الأكْل) فحجَّ إلى دُنْيا من سمَّاهم الوهابية لا إلى دينهم، بدليل أنه جعل من نفسه ظِهارة لبِطانة الكوثري، كما يقول د. بكر أبو زيد - رحمه الله - في كشفه زيف أبي غدة والكوثري معًا في كتابه: (براءة أهل السنة من الوقيعة في علماء الأمة)، وشكره ابن باز - رحمه الله - في مقدمته بقوله: (فضحتم المجرم الآثم محمد زاهد الكوثري بنقل ما كتبه من السَّبِّ والشَّتم والقذف لأهل العلم والإيمان واستطالته في أعراضهم، وأوضحتم أثابكم الله تعلق تلميذه الشيخ عبد الفتاح أبو غدة به وولاءه له ومشاركته له في الهمز واللمز، كفى الله المسلمين شره وأمثاله).
2 - بعد أن صبر على أذى المبتدعة عدد سنين قدِم إلى الرياض يطلب عونًا على بناء أول مسجد للسلفية في تاريخ سورية، فصحبه ابن باز إلى مجلس العلماء مع الملك سعود - رحمه الله جميعًا ـ ومما قصه عليَّ: أنه فوجئ بالشيخ محمد بن إبراهيم - رحمه الله - يفتتح المجلس بما لم يظن أن عالمًا يتجرأ عليه: (ما تخاف الله يا سعود؟!)؛ وكان الملك سعود ـ رحمهم الله ـ من أعظم من عرفت من ولاة الأمر إكرامًا للعلماء وخضوعًا لفقههم؛ فردَّ بالدعاء أن يرزق الله الجميع خشيته في الغيب والشهادة، وتبيّن أن ما أغضب الشيخ - رحمه الله - كلمة في جريدة البلاد افتتحها صحفيها الجاهل: (باسم الله وباسم الملك)، فاعتذر الملك سعود - رحمه الله - بأنه لم يصل من رحلته للعلاج إلا الليلة البارحة، ولم يقرأ الجريدة، وردَّ الشيخ بأن ملك البلاد راعٍ ومسؤول عن رعيته، يقول الشيخ نسيب: فرفعت يدي طالبًا الإذن بالكلام، فأذن لي، فقلت: جميل أن ينصح العلماء الملك، وأجمل منه أن يقبل الملك نصيحتهم بمثل هذا الخلق الكريم. فانطلق الملك سعود يؤكد أن هذه الدولة بفضل الله قامت على التعاون والتشاور بين العلماء والأمراء، ولا خير في العلماء إذا لم يقدموا النصيحة، ولا خير في الأمراء إذا لم يقبلوها… في كلام طويل جميل. وحصل الشيخ على الإعانة المطلوبة فصودرت في الحدود السورية، لمحاولته إدخالها بطريقة غير نظامية، ولو بني المسجد لاستولى عليه المبتدعة، ومن الخير أن يصلي السلفي في مساجد الناس ليكون قدوة بعمله وقوله وخلقه الشرعي.
3 - وابْتُلِيَ بعِرْقِ النَّسا، ولعله يصدق عليه الحديث: (إن الله إذا أحب عبدًا ابتلاه)، و: (أكثر الناس بلاء الأنبياء ثم الأمثل فالأمثل)، ولم يرده المرض والألم الشديد (كلَّما تحرَّك) عن الدعوة إلى الله على بصيرة في أي مكان يستطيع الوصول إليه حتى توفاه الله فوق (85) سنة. وكان يطوف مرة محمولًا على رؤوس اثنين من الأفارقة الطوال في (شبرية) فعثر أحدهما وسقط الشيخ مع (شبريته) على أرض المطاف، وفي سبيل الله (الدعوة على منهاج النبوة والحج والعمرة تطوعًا) ما لقي، عوضه الله الجنة وخلفه في أهله (وعليهم) بصلاحهم.
4 - ولما بلغ سنَّ التقاعد وتوقف صرف راتبه الشهري، طلبتُ من الشيخ ابن باز الشفاعة لدى خادم الحرمين لصرف راتبه مدى الحياة أسوة بصنيعهما مع زميله في الدعوة وابن بلده الشيخ الألباني، فكان ابن باز والملك فهد ـ رحمهما الله ـ عند حسن الظن بهما فتم ذلك. وكان الأمير سعود بن سلمان بن محمد آل سعود جزاه الله خير جزائه قد هيأ له الإقامة في السعودية، وخصص غرفة في قصره لسكنه كلما زار الرياض، وتحمل صرف راتبه فترة انقطاعه، زاده الله من فضله.
5 - وعندما زاغت عقول أكثر العرب بمن فيهم أكثر طلاب العلم الشرعي وبعض علمائه أثناء احتلال حزب البعث العراقي الكويت واستئجار القوات الدولية للإعانة على طرده منها؛ وقف الشيخ نسيب - رحمه الله - من هذا الأمر الموقف الذي يليق بالمسلم (فضلًا عن السلفي) شرعًا وعقلًا، فأعلن بملء فمه في كل مكان تأييد السعودية وقرارها الحازم مكافحة غزو الشر والفساد البعثي العراقي (الديني والدنيوي) الذي ابتليت به العراق عشرات السنين في أسوأ حكم عرفته بعد هولاكو؛ ويريد الجهلة (من العلمانيين والشيوعيين والعروبيين والحزبيين الموصوفين زورًا بالإسلاميين) أن يمتد هذا الفساد الديني والدنيوي ليصل إلى أكثر البلاد بركة وقداسة وبراءة من أوثان المقامات والمزارات والمشاهد والأضرحة وما دون ذلك من البدع والموبقات؛ وخدع الشيطان بدعايتهم الباطلة أكثر السلفيين الذين أعطاهم الله من صناعة الحديث أكثر مما أعطاهم من الفقه فيه، فأنساهم الشيطان ما صحَّ من تعامل النبي - صلى الله عليه وسلم - مع المشركين واليهود المحاربين ودخوله في جوار المطعم بن عدي، وقتاله هوازن مع خزاعة حلفائه يوم شركهم، ويوم أسلم كثير منهم عام الفتح، وكانوا معه في جيش الفتح، ولكنهم مثل غيرهم لم يميزوا بين معنى الولاء وبين معنى التعامل والتعاون على الحق والخير والعدل، وأكثرهم تعاونوا مع حزب البعث على الشر والظلم. وكان الشيخ نسيب الرفاعي - رحمه الله - متميزًا على الجميع بعقله وبشرع الله له، لا أعرف في الأردن وسورية من قارب خطْوهُ أو وصل إلى كعبه، وكان يخالف تيار الضلال العام بقوله: (لو لم تفعل السعودية ما فعلت لِطرد شيطان البعث من الكويت ورد كيد مؤيديه لأجرمت وضيعت إقامة الله إياها ذخرًا للإسلام وقدوة صالحة للمسلمين).