يا عالم الغيب ذنبي أنت تعرفه
وأنت تعلم إعلاني وإسراري
وأنت أدرى بإيمانٍ مَنَنْتَ به
عليّ، ما خدَشَتْه كلُّ أوزاري
أحببْتُ لقياك، حُسْنُ الظّنّ يشفع لي
أَيُرْتَجى العفو إلاّ عند غفار؟
هذه أبيات ناجى بها غازي ربّه بعد بلوغه الخامسة والسّتّين من عمره رحمه لله
وبدّل سيّئاته حسنات، وأحسن إليه كما أحسن إلى بلده وولاة الأمر فيها وأهلها.
وعن هذه البلاد والدّولة المباركة التي جدّد لله بها دينه ثلاث مرّات قال:
ويا بلاداً نَذَرْتُ العمْرَ؛ زهرَتَه
لِعِزِّها، دُمْتِ، إنّي حانَ إبحاري
تركتُ بين رمال البيد أغنيتي
وعند شاطئك المسحور أسراري
إن ساءلوكِ فَقُولي: لَمْ أبِعْ قلمي
ولم أُدَنِّسْ بسوق الزّيف أفكاري
قُلْتُ: صدقْتَ، ليتها فَد تْكَ الألوف المؤلّفة التي نذَرَتْ حياتها للضّحالة والضّياع، وخيانة الأمّة.. (فخانوا أئمتها وولاة أمرها وعامّتها)، السّمّاعون لكذب الخوارج المهاجرون إلى بلاد الكفر من خير بلاد المسلمين والمقيمين فيها يأكلون خيرها ويحمدون غيرها، ويشيعون قالة السّوء، لئلا يُشْكَر لله ولا خلقه بما تفضّل عليهم بهم.
وصدق رسول لله صلى لله عليه وسلّم فيما يرويه عن ربّه: “لوأتيتني بقراب الأرض خطايا ثمّ أتيتني لا تشرك بي شيئاً أتيتك بقرابها مغفرة”.
وصدق غازي رحمه لله: لم يَبِعْ قلمه بمال ولا بمنصب ولا بجاه ولا متاع؛فلا أعرف له ندّاً في تعريض نفسه لمفارقة خير منجزاته الإداريّة في الوظيفة الحكوميّة يوم نشر قصيدته النّادرة) رسالة المتنبّي الأخيرة إلى سيف الدّولة (وأشهد شهادة حقّ أنّ من قال القصيدة ومن قيلت فيه خير من المتنبّي ومن سيف الدّولة ديناً ودنيا.
ولا أعرف لغازي القصيبي ندّاً في وقفته الشجاعة الثابتة شاهراً قلمه في وجه الاعتداء السّافر والظّلم والجور والفجور سواء سُمِّيَ بعثيّاً أو قوميّاً أو علمانيّاً أو إسلاميّاً على دولة الكويت. ولكن (من يُقْنِع الثّور أنّك عنتر؟( عندما قال غازي
رحمه لله:
أُغالِبُ الآلام مهما طَغَتْ
بحسبي لله ونعم الوكيل
فحسبي لله قُبَيْلَ الشروق
وحسبي لله بُعَيْدَ الأصيل
وحسبي لله إذا أسْبَلتْ
دموْعَهَا عيْنُ الفقير العليل
ياربُّ أنت المرتجى سيّدي
أنِرْ لخَطْواتي سواء السّبيل
قضيت عُمْري تائهاً، ها أنا
أعود إذ لم يبق إلاّ القليل
الله يدري أنّني مؤمنٌ
في عمق قلبي رهبة للجليل
أنا الشريد اليوم ياسيّدي
فاغْفِرْ أيا ربّ لعبد ذليل
قال الجاهل (وتبعه بعض طلاّب العلم (: يتوب ويطلب المغفرة؟ هذا دليل على صحّة اتّهامه بالعلمانيّة وما دونها.
قُلْتُ: فكيف به لو استغفر ربّه في اليوم سبعين مرّة وتاب إلى لله مائة مرّة، كما صحّ عن النّبيّ صلى لله عليه وسلّم.
وأعرفه وقد كان برّاً بِمَكْتَبَي الدّعوة في بَلَدَيْ سفارته: البحرين وإنكلترا بما يتجاوز طلبهما أو حاجتهما، وأكثر مما أطلبه لنفسي أو أعطيه غيري لو كنت مكانه.
وزرته أثناء عمله في البحرين مع أخي د. سعد السعد مدير مكتب الدّعوة في
البحرين سابقاً، فوجدته كدّس نسخاً من تفسير محمد أسد رحمه لله باللغة الإنكليزيّة لإهدائها الزّوّار غير العرب، وعنْدما احْتَلَّ حزب البعث العراقي وطاغوته صدّام حسين الكويت واستأجَرَت المملكة المباركة القوات الدّوليّة للإعانة على تحرير الكويت طلبْتُ منه ما تيسّر له من كتاب محمد أسد )الطريق إلى مكّة (لإهدائها وعرضها في مكاتب قادة القوّات فأرسل لي عشرات النّسخ ثمّ عزّزها بعشرات على حسابه عوّضه لله الجنّة، وأعانني الفريق مريع الشهراني جزاه لله خير الجزاء على وضعها في المكان المناسب للاستفادة منها.
وعندما عُيِّن وزيراً للصِّحَّة وضع عند كلّ سرير مريضٍ مصحفاً ووضع لافتاتٍ يراها المرضى في كلّ مكان من المستشفيات تحمل قول لله تعالى: (وإذا مرضت فهو يشفين) وأدخل القرآن في علاج الأمراض النّفسيّة. وعندما لجّ الخوارج في اتّهامه ظلماً وعُتُوّاً بالعلمانيَّة غضباً لسخريّته من أشرطتهم المخذِّلة عن مقاومة العدوان البعثي الصّدّامي والمهيّجة للأحداث سفهاء الأحلام على دولة التّوحيد والسّنّة (أمرائها وعلمائها) في زمن الحرب (حرب الإلحاد والوثنيّة القبوريّة للحقّ والعدل(؛ كتب كتابه (حتى لا تكون فتنة)، وأُسْقِطَ في أيدي الخوارج المتعالمين، إذ قابل تشنّجهم بأسلوب لم يَخْلُ من المرح، وقابل فِكْرَهم بنصوص الكتاب والسّنّة وفقه عمر رضي لله عنه وأبي حنيفة والشافعي وابن تيمية وابن القيّم، وليته اكتفى بها عما قال المحمصاني وفوقه محمد رشيد رضا، رحمهم لله جميعاً.
وتأدّب بما أدّبه به ربّه فخاطبهم كما لو كانوا علماء لا متعالمين، مع أنّ الكتاب يبيّن أنّه أقرب منهم إلى الفقه فضلاً عن مصطلح العلمانيّة. وبدأ بخيرهم وأقربهم إلى العلم الشرعي (بعدمحاورته الألباني وقبل تحوّله للفكر) ففنّد أدلّته على علمانيّة القصيبي من أقواله في جريدة الشّرق الأوسط، مثل قوله :(لا جدال حول الشريعة؛ لا تحليل لما حَرَّمَتْ ولا تحريم لما حلَّلَتْ، وما عدى ذلك من أمور يظّلّ قضيّة مفتوحة للنّقاش).
وقال متّهمه بالعلمانيّة: (بعض السّذّج يقول: صحيح، أيّ أمر يتعلّق بالشّريعة غير قابل.. في الكتاب والسّنّة خلاص، أمّا غيره فهو قابل للنّظر كما يقول كبيرهم الذي علّمهم السّحر..لأنّهم يريدون أن يأتوا في النّهاية بقضايا ما وردت في الكتاب والسّنّة).
وردّ القصيبي بأنّه لا يجوز له الحكم على ما في الصّدور، وأنّ ما لم يوجد في الكتاب يبحث عنه في السّنّة، ثمّ الإجماع، ثم القياس، ثمّ الاستحسان، أو المصلحة المرسلة أو العرف أو الاستصحاب أو شرع من قبلنا أو مذهب الصّحابيّ أو الاجتهاد مِنَ القادر عليه..وكلّ ذلك مستقى من الكتاب والسّنّة.
(قال متّهمه بالعلمانيّة: (ومن أساليبهم ومبادئهم ما يسمّى بالحوار، وهو خطير خطير خطير.
وردّ القصيبي : (أنت تؤمن بالمجادلة بالتي هي أحسن؟ إذاً يا أخي لا تحاوِرْنا، جادلنا بالتي هي أحسن، وهل اتّهام المسلم بالعلمانيّة- وهي الكفر- من المجادلة بالتي هي أحسن؟ فكيف تكون المجادلة بالتي هي أسوأ؟ بالقتل؟
ومن أدلّة متّهمه على علمانيته قوله: (حُسِمَتْ قضيّة التّلفزيون ولكنّ قضيّة البرامج الملائمة للعرض تبقى مفتوحة، وحُسِمَتْ قضيّة تعليم المرأة وعملها ولكن قضيّة المناهج والوظائف الملائمة للمرأة بقيت مفتوحة).
وردّ القصيبي بأنّك أنت ملأْتَ شريطك نفسه (السّكينة السّكينة) بالشكوى من برامج التّلفزيون، وقلْتَ عن مناهج التّعليم العام: إنّ عليها مآخذ، ومناهج الجامعات فيها خلل كبير، أتريد هذه القضايا مفتوحة لك مغلقة عليّ؟!
وتحوّل الاتّهام بالعلمانيّة عن القصيبي بمفرده إلى الدّولة كلّها بدليل نظام المرافعات والمحاكم المتخصّصة.
وردّ القصيبي نيابة عن الأمّة : (ياأخي اتّق لله ولا تَصِم الدّولة الوحيدة التي تلتزم بشرع لله وتقيم حدود لله بالعلمانيّة فتطعنها في المقتل، لقد أعزّنا لله بكلمة التّوحيد، ومكّننا من بناء دولة التّوحيد، وآوانا وأيّدنا بنصره ورزقنا من الطّيّبات، فاتّق لله وكن من الشّاكرين).
وقالوا: (كذب القصيبي عندما قال: إنّ الفتوى تتغيّر بتغيّر الزّمان).
وردّ القصيبي بأدلّة عامّة من الكتاب والسّنّة وأثرٍ عن عمر رضي لله عنه وعن ابن تيمية وابن القيّم- رحمهما لله-، وبنقل خاصّ عن القرافي من (الإحكام في تمييز الفتاوى عن الأحكام).
وقال بعضهم: إنّ من يقول بتغيّر الفتوى ينقض عرى الدّين، وقال غيرهم: لم يقل أحد قبل القصيبي بتغيّر الفتوى.
فنقل القصيبي فصلاً عنوانه: (في تغيّر الفتوى واختلافها بحسب تغيّر الأزمنة والأمكنة والأحوال والنّيات والعوائد). من أعلام الموقّعين لابن القيّم رحمه لله، أورد فيه سبعة أمثلة لتغيّر الفتوى بتغيّر الزّمان والمكان والحال.
وقارب القصيبي بين قول كبير الخوارج وقول الخميني:
قال الخميني: (لا نريد لشبابنا أن يتصوّروا علماءنا يدرسون مسائل الحيض والنّفاس بدلاً من التّركيز على السّياسة).
وقال الخارجيّ: (ما قيمة العالِم إذا لم يبيِّن للنّاس قضاياهم السّياسيّة؟ أتريد من العالِم أن يبقى محصوراً فقط في أحكام الحيض والنّفاس؟).
وأشار القصيبي إلى التّشابه بين ثورة الخميني في إيران وثورة الخوارج في القصيم: ?- كان شريط الكاسيت أمضى أسلحة الثّورتين.
2- كان هدف كلٍّ منهما: إسقاط دولة علمانيّة وإحلال حكومة إسلاميّة محلّها، 3- قامت حركتهما على دعوى: الجهاد بقيادة فقهاء سيّاسيّين. وبدأت الثّورة هناك وهنا بالتّهييج والتّحريض ثمّ التجمّعات ثمّ العصيان.
وكتبْتُ للقصيبي أنهاه عن مقابلة السّوء (العلمانيّة) بالسّوء (الخمينيّة) مع أنّي أعلم أنّ كبير الخوارج قد حاول تشجيع الشباب (بل الشابّات) على الثّورة بصراحة متمثّلاً بتمرّد (يلتسن) في روسيا ونجاحها (بلا رصاصة واحدة).
فردّ بمرحه المعهود: هذا ما ظهر لي من أشرطتهم، وقد أكون مخطئاً بمثل خطأ ركاب الأتوبيس في مصر عندما أضرب سائقو النّقل العام فأرسلت ثورة الجيش سائقيها مكانهم والشائع عند النّاس أنّهم قاصرون، قال الراوي: قاد أحدهم أتوبيساً فارتكب عدّة مخالفات والتفت خلفه إلى الرّكّاب معتبراً صَمْتهم انتقاداً له، وقال مغضباً: إيْه، هو أنا سقت غلط؟ فأجابوا بصوت واحد: العفو يابيه، يمكن إحنا اللي ركبنا غلط!
رحم لله غازي القصيبي، لقد خالفته فيما ظننته ميلاً قوميّاً عربيّاً، وأنا أصدِّق كلام بكر أبوزيد رحمه لله في القوميّين العرب أنّهم - دنيويّاً - أسوأ من سلفهم في الجاهليّة أهل النّخوة والشجاعة والحميّة والكرم والشرف. ولكنّي أستثني غازي القصيبي رحمه لله، فهو كما قال إِرِكْ سَفَرايد في تعليقه على خبر موت جمال عبد النّاصر: كان رجلاً أَحَبَّه كثير من النّاس، وكان رجلاً كرهه كثير من النّاس، ولكنّه كان رجلاً.
والقصيبي كان رجلاً أعطاه لله بسطة في الجسم والعلم والعزم والحلم والكرم والشّجاعة، لقي ربّه وهو يلهج بدعائه وذكره والثّناء عليه والتّوبة إليه وشكره على ما منّ به عليه من الإيمان فوق كلّ نعمة وفوق كلّ نقص، وبَقِيَتْ نعم لله تعالى عليه بالإنجاز في التّعليم الجامعي، والكهرباء، والمدن الصّناعيّة، والصّحّة، وسابك، وجمعية رعاية الأطفال المعوّقين، وجمعيّة البرّ، وانتصاره النّادر للأمّة وولاة أمرها وأفرادها في فتنة احتلال البعث العراقي الاشتراكي (وطاغوته صدّام الدّين والدّنيا) دولة الكويت وتهديده بقيّة دول الخليج،فكان قلمه عزاءً يوميّاً للمظلومين وسلاحاً ماضياً في قلوب المجرمين الظّالمين ومَنْ
أَيَّدهم وفرح بجريمتهم من الموصوفين زوراً بالإسلاميّين فمن دونهم من العلمانيّين والقوميّين، جزاه لله خير الجزاء.