(دق أبواب الناس كلها
وبالآخر دق أبوابي..)
سمعناها كثيراً، عندما كنا نحسن الاستماع.. وقلناها كثيراً، عندما كنا نحاول القول. ولكننا عرفنا أخيراً أننا لم ندق باب أحد ولم يدق أحدٌ بابنا؛ كأنما أحمد شوقي حين قال (وللحرية الحمراء بابٌ بكل يد مضرّجة يُدَقُّ) كان يريد لأيادينا أن تكون مضرجة أكثر.. أو أن يكون بابُ الحرية بابَ حرية أكثر..
هل قلتُ حرية؟ نعرف الأبواب جيداً، ونعرف أيادينا -بواطنها وظواهرها- غير أن (الحرية) مراوغة دائماً، حتى في ألوانها.. هي تثبت أكثر من ثبات الأبواب خلف أقفالها، وتتحرك أكثر من أيادينا المرنة على الكوالين القديمة أو بطاقات الفتح الآلي الممغنطة. قلتُ حرية؟ إذاً كنتُ حائراً بين تكويني وكوني.. ولماذا نريدها حمراء؟
(دق أبواب الناس كلها
وبالآخر دق أبوابي..)
كلمات شفيق المغربي، ولحن وغناء هيام يونس.. كنتُ أسمعها صغيراً وأنا أدور بين ظلمات طبيعية وأضواء مصطنعة أبحث عن أبواب أدقها أو أمتلكها وأنتظر من يدقها فلم أفلح في الحالتين(!) ربما الأبواب كالأيام، أو كتلك الأيام، دولٌ حين نعنيها، نجدها تعبر من أمامنا سريعاً ولا نستطيع القبض على استقرار أي منها مهما طالت بنا الأعمار ومهما تكاثر من حولنا العمار. بابُ الحرية الحمراء أيضاً، الذي أراد له شوقي أن يدق بكل يد مضرجة فقط. لمَ لمْ يقل مضرجة بماذا؟ لم تعد الدماء حين تضرّج يدين، عاريتين كانتا أو مكتسيتين بالمعادن، تثير باباً حين يدق بها لينفتح. فبماذا نضرّج أيادينا إذاً؟ سنتعب في البحث عمّا هو أغلى من دماء أحبتنا ونحن نغمض أعيننا عن قطرات تسبح بحريّة تحت جلودنا. سنصمت عنها. لن نقول كما قال أرخميدس (وجدتها!) ونسفح دماءنا لنضرّج يداً واحدة مما نملك بها حتى ندقّ باب حرية يسبح لونها فينا. لا. تلك الدماء غير دمائنا، حتى وإن كانت في كل أطوارها حمراء.
* * *
في (بوابة الغرباء) قلتُ:
(غريبٌ أنا
أيها الخوفُ، لا تخشَ شيئاً
تقدَّم؛
سأفتحُ في وجهكَ البابَ..)
كان ذلك حين (الخروج من المرآة) أمّا حين وصل بي التيه إلى (من أجل حتى) فلم أجد نفسي غريباً، ولم أجد خوفاً أخاطبه بشجاعة، ولكن.. وجدتُ بدل الباب أبواباً لا تكفّ عن الانفتاح، من تلقاء أنفسها، وكأنها تعرف أنها لا تنفتح إلا لأبواب مغلقة تحت الثياب. هل أحدٌ، غيرنا، يملك أبواباً مغلقة تحت ثيابه.. كتلك الأبواب؟
المعذرة من شوقي أولاً، ثم من شفيق وهيام.. فلا باب للحرية الحمراء، ولا للناس أبواب. إنما الأبواب كلها نحن. فمتى ندقُّ أنفسنا بأيدينا لنتخلص من هذا العذاب؟ لا تقل فعلها أناسٌ غيرنا ولم يجدوا وراء الباب سوى أبواب. بل هم وجدوك أنت.. وأنت غيرك، دقاتك بصماتك ومراياك أبوابك؛ ضاقت أو اتسعت المسافةُ الشفافةُ بين السحابةِ والسراب.