هو عنوانٌ طارئٌ، غير مسبوق، وإن بحثت عنه فلن تجده إلا في هذه المقالة. على عكس العنوان المتداول حدَّ الاستهلاك في وسائل الإعلام كافة، وما أن تضع الكلمة الأولى منه على محركات البحث الإلكترونية حتى يظهر لك العنوان كاملاً: (أفقر رئيس في العالم)!
خوسيه ألبرتو موخيكا، رئيس دولة الأوروغواي، لم تبق وسيلة إعلامية في العالم إلا وتناولت سيرته وشخصيته واصفة إياه بأنه (أفقر رئيس في العالم) ولم يقتصر الحديث عنه على وسائل الإعلام العامة أو السياسية أو الاجتماعية، بل إن مجلة (الفيصل) الثقافية، في عددها المزدوج 455 – 456 (مارس – أبريل 2014) أفردت له موضوعاً على صفحتين فقط من أجل تكريس العنوان نفسه - ثقافياً - (أفقر رئيس في العالم) فلماذا كل هذا؟
السؤال المعقول: هل كان العالم كله سيعرف اسم رئيس دولة مغمورة، كالأوروغواي (ثاني أصغر دولة في أمريكا الجنوبية) لولا أن رئيسها البطل اختار أن يتبرع بتسعة أعشار راتبه الرسمي ويبقي على سيارته القديمة ويعيش حياة متقشفة نوعاً ما؟!
رؤساء الدول المغمورة لا يصبحون مشهورين، بالعادة، إلا حين يرتكبون المجازر في شعوبهم. أمّا هذا الرجل فقد جاء بابتكار يستحق الإكبار؛ ولأن الدنيا كبيرة وصغيرة في آن، يذكّرني ذلك بمسرحية (هالة والملك) للرحابنة وفيروز، حين دار حوار بين الملك والشحاذ، فقال الأول للثاني: لماذا لا تسعى لتغيير حياتك إلى الأفضل؟ فقال الثاني: وهل هناك أفضل من حياتي؟ قال الملك: هل أنت مجنون؟ أجاب الشحاذ: بل أنا أعقل رجل في العالم وقد حققتُ ما لم تحققه أنت أيها الملك العظيم. فتمتم الملك بعبارات الشفقة وراح يسأل الشحاذ: والآن، ما طموحك؟ فقال الثاني: لا شيء. وحين استغرب الملكُ الجوابَ وطلب تفسيراً، قال له الشحاذ: ماذا تراني يا أيها الملك؟ فقال الملك: أنتَ مجرد شحاذ، بائس، مسكين، وبمعنى أصح أنت (لا شيء). فقال له الشحاذ: وماذا تتوقع أن يكون طموحي؟ قال الملك: أن تجد وظيفة بسيطة في الدولة تضمن لك حياة كريمة. قال الشحاذ: وماذا بعد الوظيفة البسيطة؟ قال الملك: تترقى إلى وظائف أعلى. قال الشحاذ: وما هي أعلى وظيفة من الممكن أن يصل إليها الإنسان؟ قال الملك: أن يصبح ملكاً. قال الشحاذ: وماذا بعد أن يصبح ملكاً؟ ما الوظيفة الأعلى؟ قال الملك: لا شيء أعلى من الملك. فقال الشحاذ: ألم أقل لك إنني حققتُ ما هو أعلى من كل طموح!
قد نسمع، قريباً، أن الرئيس الأوروغواييِّ قد فاز بجائزة نوبل للسلام، لقاء تركه القصر الرئاسي في الأوروغواي ملجأ لليتامى والمشردين واكتفائه بالعيش في مزرعته المتواضعة. أتوقع ذلك، وإن لم أقرأ تلميحاً به من أحد. وأتوقع أكثر، ما قد يستدعيه الخيالُ الأدبيُّ الذي بات تابعاً لمفاجآت الواقع ولا يتقدمها أبداً.. أن يؤلف المبدع خوسيه موخيكا كتاباً يروي فيه سيرته الذاتية ببساطة أدبية واقعية مثيرة، فينال جائزة نوبل في الأدب!.. لأن كلمة (أديب عالمي) حاصل على جائزة نوبل، هي الأعلى بين شعوب العالم والأبقى في التاريخ من مجرد صفة (رئيس) لدولة صغيرة -فرؤساء الدول في العالم أكثر عدداً من الأدباء العالميين!- أمّا الأعلى والأكثر شهرة من المسميين، فهو مسمى (أفقر رئيس في العالم) الذي أصبح (أشهر فقير في العالم!) فقد حقق ما لم يستطع تحقيقه أحدٌ، في عصرنا الحديث، سوى هذا البطل المناضل حاد الذكاء (خوسيه ألبرتو موخيكا كوردانو) الذي استحق التحية والإعجاب من العالم كله، طالما أن أحداً من الرؤساء في دول العالم - المختلف على عددهم باختلاف الاعتراف بهم - لم يستطع منافسته على هذا اللقب الشرفيِّ حتى الآن!