جان جاك رسو فيلسوف فرنسي قدير، له رؤى فلسفية عميقة، وأُثر عنه مقولات كثيرة ذات بعد حياتي مهم ذو صلة مباشرة في تفاصيل وجعنا اليومي المعاش، ومما نُقل عنه قوله: «إذا أردت أن تحيا بعد موتك فافعل واحداً من اثنين : اكتب شيئاً يستحق أن يُقرأ، أو افعل شيئاً يستحق الكتابة».
- توقفت متأملاً عند هذا القول كثيراً.. ومن منا لا يريد أن يبقى له ذكر جميل بعد الرحيل عن دنيا الناس.. ومن منا لا يتطلع لحياة جديدة يعيشها بعد أن ينتقل من هذا العالم إلى دنيا البرزخ ومن ثم الدار الآخرة.
- قادني الجزء الأول من عبارة «رسو» هذه إلى أسئلة خمس، أعتقد أهمية طرحها على أنفسنا في هذا الوقت بالذات :
* ما هو الشيء الذي يستحق أن يُقرأ؟
* هل ما أكتبه سواء في الصحف أو عبر وسائل التواصل الاجتماعي أو في كتاب متخصص أو حتى عام .... يستحق القراءة ؟
* كيف لي أن أصل إلى الحقيقية الكاملة في ذلك، فأعرف هل أنا في خانة الإيجابيين أو السلبيين أو المحايدين الصامتين؟
* هل القارئ الحالي هو المعيار الذي من خلاله نحكم على أنّ ما نكتبه أياً كان هو من يبعثنا من جديد؟
* وهل لدي القناعة وراحة الضمير على كل ما كتبت، أو أنني أكتب للشهرة أو الريادة أو التغيير ولو للسلب؟.
- تذكرت حينها سيرتنا مع فضيلة الشيخ المثقف والمفكر والمبدع علي الطنطاوي الذي كتب وتحدث كثيراً لنا نحن الشباب آنذاك، ولكن الغالبية منا لم يكونوا يعيرون هذا الرجل المميّز بحق أدنى اهتمام.
- لقد تحسّرت على اللحظات التي كنت أغلق فيها التلفاز حين يتحدث هذا العالم البحر رحمه الله رحمة واسعة.
- بصدق كثير منا لا يملكون بوصلة دقيقة يقيمون فيها ما يستحق القراءة وما لا يستحق!!.
- لا يقرؤون وإذا هم انضموا إلى نادي القراءة يوماً ما فهم غالباً يمضون أوقاتاً طويلة في قراءة ما لا يستحق.
- العلوم ليست واحدة، والعقول تختلف وتتباين، ومع أنني من أنصار القراءة لكل ما يقع تحت اليد، إلاّ أنّ من الأهمية بمكان أن يُرشّد الواحد منا قراءته بعد أن يعرف جيداً ما يستحق القراءة، خاصة وأننا نواجه سيلاً من المعلومات، والكل يكتب وبلا ضابط ولا معيار، وربما دون وجود مرجعية يصدر عنها ويرجع إليها حين تختلط في ذهنيته السبل ويفقد خارطة الطريق.
- البعض يحرص على أن يكون له رصيد عالٍ من المتابعين سواء في حسابه بتويتر أو في غيره.. ولو على حساب الحقيقة.. ولو على حساب الدين.. ولو على حساب الوطن.. ولو على حساب القيم والمبادئ والأخلاق.. ولو على حساب ضميره وإنسانيته إن كان عنده بقية حياة في ضمير، ويغيب عن باله العمر الثاني.
- وهناك آخرون مصفدون بصنمية الانتماء الذي يحجر العقل ويغيب العدل في القول فيجيرون ويظلمون ويظنون أنهم بذلك يحسنون، وفي النهاية يخسرون العمر الجديد بعد أن يغيبهم الموت.
- والثالث صنف منا يملك القدرة على الكتابة التي تستحق القراءة لكنه محجم عنها صارف النظر لغيرها، حتى إذا شاب قال ياليت وياليت وقد ضاع عمره في الصفق بالأسواق فخسر الكتابة المفيدة والفعل الجميل الذي يحيا به حياة ثانية.
- إن ما يستحق القراءة لا يمكن أن يرتبط بالأشخاص ولا بالأحداث، ولكنه القول الموصول بالحق والموصل للخير، والرجال والأفعال والأحداث يعرفون وتقيم بالحق والخير وليس العكس.
- لقد عشت القراءة عمري وعايشت رجالاً دُفنوا قبل قرون ولكنهم وكأنهم يعيشون الساعة، فكيف استطاع هؤلاء أن يخلدوا لأنفسهم الذِّكر ويبقوا في عالم البشر حتى القرن الخامس عشر الهجري؟.
- ما تسطّره اليوم وما تدوّنه في تويتر والفيس بوك وزاويتك اليومية أو الأسبوعية وكتابك المتخصص و... قد يحتاج إلى قراءته ولدك أو حفيدك الذي تتطلّع أن يكون من الصالحين يدعو لك بعد موتك، فكن كما تحب أن يروك ويقرؤوك حتى تكون لهم قدوة وأنموذجاً وأنت في بطن الأرض.
- لا تكتب ما تتمنى أن تعتذر عنه أمام ربك يوماً ما، أو حتى عند بني الإنسان الذين سيقولون فيك ما يفهمون هم لا ما تريد أن تقول.
- تذكّر أنّ النص إذا كتبته خرج من ملكيتك ليصبح مشاعاً كل يحلله ويفهمه وربما ينقده حسب مداركه وبناءً على خلفيته ومنطلقاته ومرجعيته.
- القلم نعمة أمتنّ الله بها على بني آدم، ولعظمه أقسم الله به، وبما أنك من حملته فاعرف لهذه النعمة حقها واشكر الله عليها، وعظم أمرها واحرص على أن يكون سبباً لميلاد جديد تحيا به بعد موتك.
- شخصياً أتمنى وأسأل الله عزّ وجلّ أن يجمع لي الثلاث:
- الولد الصالح الذي يدعو لي بعد موتي.
- العلم الذي يُنتفع به.
- الصدقة الجارية.
شكراً لكل من أدرك أمانة الكلمة، وعظم المسئولية، وشانعة التدجيل والتضليل والتزييف فيما يقول ويكتب، والشكر لكل من ترك لنا زاداً من العلم المكتوب نصدر منه وإليه نرجع بعد كتاب الله وسنّة رسوله صلى الله عليه وسلم، أما عن الفعل الجميل الذي يستحق أن يُكتب فأترك الحديث عنه لمقال آخر، دمتم بخير وإلى لقاء والسلام.