انطلاقا من حرصه الشديد على أمن وسلامة المسلمين وحقن دمائهم وعلى سمعة هذا الدين الحنيف، وسلامة تعاليمه الإنسانية جاء خطاب خادم الحرمين الشريفين الملك عبدالله بن عبدالعزيز الذي وجهه للأمتين العربية والإسلامية يوم أمس الأول وللمجتمع الدولي، واستشعر فيه مدى الخطر الذي تعيشه الأمة الإسلامية، والإرهاب الذي انعكس بصورة سلبية على الإسلام، والأوضاع المتفجرة والحروب التي تعم المنطقة العربية، والدم الذي ينزف في كل مكان في سوريا والعراق وفلسطين وليبيا ولبنان ومصر واليمن. إنَّ الإرهاب الذي شوه الإسلام الحنيف وأظهره ديناً دموياً مكروهاً بغيضاً وليس الدين المسالم الذي جاء به رسولنا الكريم عليه أفضل الصلوات وأتم التسليم.
لقد جاء هذا الخطاب التاريخي الذي انفرد به هذا القائد الحريص على وحدة المسلمين وسلامتهم في مثل هذه الظروف الحالكة والحرجة التي تمر بها الأمة دون غيره من الزعماء والقادة العرب لتؤكد للجميع الهمَّ الذي يحمله تجاه هذه الأمة بما تحمله كلمته من دلالات رمزية وسياسية وإنسانية، تأتي تتويجاً لدور المملكة في المحافل الدولية وجهودها في تقديم المساعدات الإنسانية والدعم المعنوي والمادي والسياسي المتواصل لكثير من البلدان الإسلامية وقضاياهم المصيرية.
تأتي هذه الكلمات المهمة توقيتاً ومضموناً انطلاقاً من مكانة الملك عبد الله بن عبد العزيز - حفظه الله ووفقه وسدده- ودوره الرائد.. وخادم الحرمين الشريفين شخصية عالمية يقدرها العالم أجمع الشرقي والغربي العربي والإسلامي، وتشهد له بذلك مواقفه الإنسانية تجاه العالم أجمع مما أكسبه محبة الجميع، وتقدير العالم لشخصيته العظيمة المحبة للسلام ونشره بين مختلف الفرقاء، وهو الرجل المحب للحوار ونبذ العنف وإفشاء السلام في ربوع الأرض واحترام الآخرين على مختلف مستوياتهم ودياناتهم امتثالا لأمر الله تعالى عز وجل «ادعُ إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن»، واتباعاً لتوجيهات النبي المصطفى -صلى الله عليه وسلم-الذي يقول : «المسلم أخو المسلم، لا يظلمه، ولا يكذبه، ولا يخذله، كل المسلم على المسلم حرام، ماله، ودمه وعرضه».
لقد وضع خادم الحرمين الشريفين في كلمته القوى الدولية المختلفة عند مسؤولياتها تجاه ما يحدث من قتل وتدمير متعمّد للشعب الفلسطيني في غزة تقترفه إسرائيل من خلال حربها على غزة التي وصفها بالمجازر، منتقدًا صمت المجتمع الدولي تجاهها، وكأن الزمن يعود مجددًا عندما وصف -حفظه الله- في نفس التوقيت العام الماضي الواقع المؤلم والمصير المجهول الذي تعيشه أمتنا العربية والإسلامية، وحذَّر من الأخطار المحدقة بها التي يشكل فيها «الإرهاب الفكري» حجر الزاوية بما يحمله أصحاب ذلك التيار من أفكار، ويسوّغون لـشعارات ما أنزل الله بها من سلطان، وذلك بتأكيده -حفظه الله- مجدداً على أنَّ المتدثرين بعباءة الدّين أشد خطراً، وأعظم أثراً، وأعمق من الأعداء الذين يتربصون بالأمة في العلن.
أما الذي فاجأنا في هذا الخطاب فقد كان تعبيرخادم الحرمين الشريفين عن أسفه لعدم تحقق مشروع إنشاء وتفعيل المركز الدولي لمكافحة الإرهاب الذي تقدمت به المملكة ولقي تجاوبا في حينه، وقد كنا نتوقع أن العمل يجري على إنشائه ووضع آليات عمله، ولكن عندما يكون التجاهل مصيره فكيف يمكن لأحد أن ينكر وجود أطراف وقوى تتمنى استمرار الإرهاب وتسعى لتصعيده لأنه الغطاء الذي تمرر أجنداتها من خلاله.
إنَّ لهذا الخطاب التاريخي أهمية كبرى وقصوى، حيث شخص فيه -حفظه الله- داء الإرهاب العضال الذي ينخر في جسد أمة العرب والإسلام اليوم، حيث حمَّل قادة وعلماء الأمة الإسلامية مسؤولياتهم في الوقوف في وجه هذا الاعتداء الصارخ على (الإسلام) المختطف، الذي يقدمه الإرهابيون والمرجفون بإسراف على أنه دين تطرف وكراهية.
إن من يصغي إلى هذا الخطاب الاستثنائي سيدرك تماماً أنه بلسم للجروح، مدعوم بآيات كريمة وأحاديث شريفة يشير فيها من «مهبط الوحي ومهد الرسالة المحمدية أدعو قادة وعلماء الأمة الإسلامية لأداء واجبهم تجاه الحق جل جلاله وأن يقفوا في وجه من يحاولون اختطاف الإسلام». جمل فيها تحذير من الأخطار المحدقة والطلب فيها من قادة وعلماء الأمة الإسلامية إلى التضامن والتكاتف والتضافر لمواجهة هذه العواصف والأعاصير المدمرة قبل فوات الأوان لأنها مسؤولية الجميع وأن «التاريخ سيكون شاهداً على من كانوا الأداة التي استغلها الأعداء لتفريق وتمزيق الأمة» فاستمرار الضغائن والفتن بين شعوب الأمة الإسلامية تهدد كيانها وتضعف قدراتها وتشتتها وتجعلها لقمة سائغة أمام الأعداء وفريسة سهلة للحاقدين الظالمين.
إنَّ أقل واجب علينا تجديد الدعم لما تمثله بلادنا من اعتدال يعكس وسطية وسماحة الإسلام، فهي التي حاربت الغلو ودعت إلى الحوار بين أتباع الأديان والثقافات، وهي التي تفتح المجال مرة أخرى لتوحيد الصفوف وتكاتف الجهود للحيلولة دون خروج جيل «لا يؤمن بغير العنف، رافض ٍللسلام، ومؤمنٍ بصراع الحضارات لا بالحوار بينها».
لقد وضعت هذه الكلمة-وهي تنطلق من هذه الأرض المباركة وفي هذا التوقيت ومن شخصية عالمية بحجم الملك عبدالله- المجتمع الدولي أمام مسؤولياته الملحة التي لا تحتمل التأجيل في التعامل مع أزمات المنطقة، وما خلفته من فلتان أمني وعنف أدى إلى اتساع رقعة التطرف التي لن تكون محصورة في حدودنا الإقليمية بل سيطال شرها العالم أجمع، ودون استثناء.