Saturday 21/06/2014 Issue 443 السبت 23 ,شعبان 1435 العدد
21/06/2014

فوق سحائب الرضا .. مع المنفلوطي (2)

الرضا بقضاء الله جل في علاه وتسليم الأمور له وانشراح الصدر لكل ما يكتبه لك في هذه الدنيا لا تبدو أموراً يسيرة إلا لمن سهلها رب العزة عليه، لأنها تحتاج قلبا قد فاض بالإيمان، وأيقن إيقانا جازما أن لهذا الكون ربا يدبره، وإلا فإن القلب سيظل ساخطاً محروما من حلاوة هذه الدنيا الفانية، وخاسراً يوم يقوم الأشهاد.

هذا ما كان يؤكد عليه أديب العربية المنفلوطي من نصه البديع الذي وقفت عند بعض جمالياته في الجزء الأول من هذه السطور، وأورد اليوم مشهدا آخر من مشاهده الاستثنائية التي تعالج هذه الفكرة الإيمانية من خلال حروفه المميزة.

يقول المنفلوطي: ((أنت حزين لأن نجما زاهراً من الأمل كان يتراءى لك في سماء حياتك فيملأ عينيك نورا، وقلبك سرورا، وما هي إلا كرَّة الطرف أن افتقدته فما وجدته، ولو أنك أجملت في أملك لما غلوت في حزك، ولو أنك أنعمت نظرك فيما تراءى لك لرأيت برقاً خاطفاً ما تظنه نجماً زاهرا، وهنالك لا يَبهرك طلوعه فلا يفجعك أفوله. أسعد الناس في هذه الحياة مَن إذا وافته النعمة تنكَّر لها ونظر لها نظرة المستريب بها، وترقَّب في كلِّ ساعةٍ زوالها وفناءها، فإن بقيتْ في يده فذاك، وإلا فقد أعدَّ لفراقها عُدَّته من قبل. لولا السرور في ساعة الميلاد ما كان البكاء في ساعة الموت، ولولا الوثوق بدوام الغنى ما كان الجزع من الفقر، ولولا فرحة التلاق، ما كانت ترحة الفراق)).

هذا هو المشهد الثاني من نص أديب العربية مصطفى المنفلوطي الذي يخاطب فيه ذلك المحزون الذي أصابه الزمان بسهامه، وأدارت له الأيام وجهها، ويحاول من خلاله أن يسليه ويخفف عنه، وذلك من خلال أسلوبه الرائع الذي اعتمد فيه هنا على الفرضية المنطقية والعقلية رغبةً في الوصول إلى أعلى درجات الإقناع لدى هذا المحزون لكي يكفكف دمعه ويخفف من حزنه وألمه، ونحن هنا بصدد التحليق في المشهد الثاني من نصه البديع بعد أن كنا في الجزء الماضي قد تفيأنا بظلال المشهد الأول واستمتعنا بروائعه.

يستكمل المنفلوطي تعزيته ومواساته لهذا المحزون لإقناعه بالرضا والتسليم ومن ثم الاطمئنان وزوال الهم والغم والحزن والألم، ويشخص في مطلع هذا المشهد السبب الذي جعل هذا المحزون يصل إلى هذه الدرجة الموغلة في الحزن، وذلك من خلال تخيل مشهد رائع وافتراض منظر تقريبي، فسبب هذا الحزن هو أنك أيها المحزون أبصرت نجماً ساطعاً من الأمل وكوكباً زاهراً من السعادة والصفاء والرجاء كان يتراءى لك في سماء هذه الحياة الفانية، فاغتررتَ به وتعلَّقتَ به، فملأ قلبَك بالسرور وعينيك بالنور، ثم ما هي إلا لحظةٌ خاطفةٌ وقد اختفى من أمام عينيك وتلاشى بين ناظريك، ولهذا كان من الطبعي أن يشتدَّ حزنك وألمك إذا كان الحال كذلك؛ لأنَّ شدة تعلُّقك بهذا النجم من الأمل وثقتك بحصوله وإسرافك في الفرح به والسرور لأجله جعل حزنك عند فَقدِهِ مضاعفا، وألمك عند اختفائه كبيرا، ولو كنتَ قد أجملتَ في هذا الرجاء، واختصرتَ من هذا الأمل، وتعقَّلت في هذا التعلُّق لما صار حزنك كثيرا، وألمك كبيرا.

إنَّ ما تراه أيها المحزون ليس نجماً من الأمل ثابتاً كما تتخيَّل، وليس كوكباً زاهرا من الرجاء والسعادة الدائمة كما تتصوَّر، إنه مجرد برقٍ خاطف، وضوءٍ زائف، سرعان ما يزول، وسرعان ما يتلاشى، ولو أنَّ هذه الرؤية هي التي تصورتها، وأنَّ هذه الفكرة هي التي آمنتَ بها، فتعاملتَ مع ما تراه على أساس هذا التصور لم يَبهرك لهذا النجم طلوع، ولم يفجعك له أفول.

وينتقل المنفلوطي في هذا النصِّ المتألق إلى مشهدٍ آخر وخطابٍ مغاير، واضعاً من خلاله قاعدة عامَّةً للسعادة، وأساساً متيناً لكلِّ من أراد أن يكون سعيداً في هذه الدنيا، وكاشفاً عن الصفات التي يجب أن يتحلَّى بها الإنسان إذا أراد لحياته الصفاء ولعيشه الهناء، ومؤسساً لاستراتيجية واضحةٍ للتعامل مع الزمان، وخطةٍ متقنةٍ لمواجهة الأيام وما يمكن أن تحمله معها من خيرٍ أو شر، فأسعد الناس في هذه الدنيا هو مَنْ إذا قابل الخير تنكَّر له، وإذا واجه النعمة نظر إليها نظر المستريب بها الشاكِّ في دوامها، متوقِّعاً في كل لحظة ذهابها، ومترقِّباً في كلِّ وقتٍ فناءها وزوالها، لذلك فهو لا يتوقَّع دوامها ولا يترقَّب ثباتها وبقاءها؛ لأنه علم أخلاق الأيام وصفاتها، وعرف عادة الزمان وطريقة تعامله مع الناس، وأنه لا يمكن أن يديم نعمةً في يد أحد، ولا يمكن أن يُبقي خيراً مع أحد؛ لذلك فهو في رضى دائمٍ واطمئنانٍ تام، فإنْ بقيتْ تلك النعمة بين يديه حمد الله وشكره وأثنى عليه، أما إذا ذهبت وهذا هو المتوقَّع المترقَّب فقد أعدَّ العدَّة لهذا الذهاب، واستعدَّ له، فلم يكن زوالها مفاجئاً فيحزن لأجل ذلك.

ويختتم أديبنا المتألق هذه القطعة البديعة والنصَّ المتميز بخاتمةٍ بديعة، ونهايةٍ رائعة، تُلخِّص ما يريد أن يقوله لهذا المحزون المتألم، وترسم له نهجاً عاماً يتضمَّن ح قائق حين يؤمن بها الإنسان ويتمثَّلها في هذه الحياة ويتصوَّرها التصوُّر المطلوب فإنَّ حياته تتغيَّر ومعيشته تتبدَّل، وينال السعادة الدائمة والرضا والتسليم والاطمئنان لكلِّ ما يصيبه أو يناله، كلُّ ذلك يبيِّنه المنفلوطي من خلال اقتباسٍ جميلٍ وتوظيفٍ رائعٍ للنصوص القديمة، فقد تمثَّل قول أبي العلاء الذي يقول فيه:

إنَّ حُزناً في ساعةِ الموتِ أضعا فُ سُرورٍ في سَاعَةِ الميلادِ

وأديبنا يكشف من خلال ذلك أنَّ الإنسان لا بُدَّ أن يتوقَّع الزوال والفناء، وأنه لولا فرحه في ساعة الميلاد ما كان بكاؤه في ساعة الموت، فهذه هي الحياة، وهذه هي الأيام وعاداتها في الأخذ والعطاء، فلولا السرور عند الميلاد ما كان البكاء عند الموت، وهذه هي الثنائية الأولى التي يستعين بها المنفلوطي لبيان مراده.

أما الثنائية الثانية فهي ثنائية الغنى والفقر، ويكشف من خلالها أن الإنسان العاقل يجب ألا يثق بدوام الغنى وهو قد عرف أخلاق الأيام وطريقة تعاملها مع الناس، وينبغي ألا يعتمد على بقاء هذا المال الوفير وهو يرى تقلُّب الأحوال وتبدُّل المآل، ومَن كان هذا شأنه فإنه حتماً لن يصيبه جزعٌ عند الفقر، ولا حزنٌ عند زوال المال؛ لأنه قد توقَّع ذلك فأعدَّ العدَّة واستعد، فلم يكن حصول ذلك بالنسبة إليه مفاجئاً ألبتة، فأيُّ مكانٍ للحزن والألم وهو قد علم أنَّ هذا الأمر واقعٌ لا محالة؟

أما الثنائية الثالثة والأخيرة فهي ثنائية فرحة التلاق وترحة الفراق، فالإنسان الذي لا يفرح للقاء، ولا يسرُّ عند التلاق، ولا يسعد عند التواصل، كلُّ ذلك يفعله لأنه أيقن أن هذه الأشياء غير دائمة، وأنَّ هذه الأمور ليست باقية، إنَّ مَن هذا شأنه لن يحزن عند الفراق ولن يجزع عند الوداع، ولن يألم حين الانفصال، لأنه أعدَّ العُدَّة واستعدَّ لكلِّ ذلك، فلم يكن حصول ذلك مفاجئاً بالنسبة إليه، فلولا فرحة التلاق ما كانت ترحة الفراق.

@@@

إنَّ من يعي هذه المبادئ ويتصوَّر هذه الأفكار التي يُقدِّمها المنفلوطي إلينا على نصٍّ من ذهبٍ سيعيش في هذه الدنيا بكلِّ راحةٍ واطمئنان، وسيكون في هذه الحياة سعيداً هانئاً لا يخاف من شيءٍ ولا يحزن لأجل شيء، والأساس في كلِّ ذلك عدم الإسراف في التعلُّق بالأمل، بل توقُّع زوال النعم وترقب فنائها في كل لحظة.

لقد كانت هذه الكلمات الرائعة من أديب العربية مصطفى المنفلوطي كالبلسم الشافي على قلب صاحبنا المحزون الذي كان هذا النصُّ مُنشئاً لأجله ومن أجله، وما أحوجنا إلى هذه الكلمات التي تبثُّ في قلوبنا الطمأنينة والرضى التامِّ بكلِّ ما يحمله لنا الزمان وتواجهه بنا الأيام.

- الرياض omar1401@gmail.com