كثير هم الأشخاص الذين يغادرون دنيانا دون سابق إنذار أو أدنى إخطار، بعضهم يبقى ذكره بعد مماته وبعضهم ينمحي أثره بدفنه ومواراته. الموت مصطلح يزعج سامعيه وناقليه ولا ضير في ذلك فهو مفرق الجماعات ومكدر على أهل النعيم نعيمهم وعلى أهل السرور سرورهم!
هو الموت ما منه ملاذ ومهرب
متى ذا حُطَّ عن نعشه ذاك يركب
هي حقيقة لا بد أن نتقبلها شئنا أم أبينا غفونا أم صحونا ونسأله أن يحسن لنا خاتمتنا.
يومياً تفاجئك رسائل نصية أو مسجات برودكاسية في ظل تقنية التواصل الاجتماعي بعضها يسعدك ويفرحك وبعضها الآخر يحزنك ويؤلمك وهذه سنة الله في خلقه وعباده. لكن يبقى أشدها ألماً على النفس عبارات النعي التي تمطرنا بين الفينة والأخرى في أحباب رحلوا من دنيانا وودعونا قبل أن نودعهم فيا الله لو كنا نعلم عن آجالهم شيئاً لطبعنا قبلة على جباههم وأشبعناهم وداعاً وتوديعاً!!.. وَلِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ فَإِذَا جَاء أَجَلُهُمْ لاَ يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلاَ يَسْتَقْدِمُونَ .
من بين أحبابي الذين غادرونا دون أن نوادعهم وما أكثرهم في زماننا ابن العم أبوفيصل عبدالله بن محمد النغيمش الذي وافته المنية صبيحة يوم الأربعاء الموافق 4-9-1435هـ من هجرة المصطفى -صلى الله عليه وسلم- إثر مرض السرطان الذي لازمه عدة أشهر -رحمه الله-، ولعلي حين أكتب هذه العبارات ليس لأنه ابن عم فحسب بل لما رأيت فيه من خصال حميدة ومناقب جميلة جعلت من جنازته جنازة مشهودة ومن ثناء الناس عليه ما يعجز الوصف عن ذكره أو تبيانه هذا لعمري مصداق حديث المصطفى -صلى الله عليه وسلم- حين مرت به جنازة فأثنى الناس عليها خيراً فقال (من أثنيتم عليها خيراً وجبت لها الجنة، أنتم شهداء الله في أرضه) أبا فيصل عرفته رجلاً باراً بوالدته التي كانت دائمة الدعاء بأن يكون هو من يتولى دفنها!! فقدر الله أن يكون أجله قبل أجلها!
أبا فيصل عرفته رجلاً محافظاً على صلاته مع الجماعة فجراً أو عشاء يشهد له بذلك جماعة حيه وإمام مسجده، بل لا يمكن أن ينتظم في الصف لصلاة الفجر إلا وقد اصطف أبناؤه أمامه رغم حداثة سنهم ومغالبتهم للنوم وهكذا ديدنه في صلاة الجمعة، فلا أذكر أني ارتقيت منبري إلا ورأيته ماثلاً أمامي بالصف الأول إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَوَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ فهل بعد هذا الشرف شرف يتحلى به المؤمن في دنياه ويقابل به ربه -عز وجل- من سجاياه الحميدة وصفاته الكريمة إنه إنسان أجمع على حبه الصغير والكبير سواء من زملائه ومحبيه أو من أصدقائه المقربين، ذكر لي زملاؤه في العمل أكثر من مرة أنه إنسان مرح وصاحب مزاح وروح دؤوبة في العمل تجبرك أن تصحبه وتجالسه.
من أجلّ المواقف التي أثرت في حقيقة حين قابلته في زيارتي الأخيرة للسعودية حيث كان قد بدأه المرض في أوله، زرته فرأيت وجهاً قد علاه النحول وجسماً أصبح إلى ذبول، وفي المقابل رأيت لساناً لم يصب بأي مرض أو علة، لساناً ينطق حلاوة في الحديث ويعطي دروسا في الصبر والاحتساب (الصوت صوت أبي فيصل والجسم والملامح ليست لشخص عهدته قوي البنية سليم الصحة) لكن هكذا هو المرض، وقانا الله وإياكم شره، ورزقنا الله وإياكم عاقبته كما جاء في الحديث الصحيح (لا يزال البلاء بالمؤمن والمؤمنة في جسده وماله ونفسه حتى يلقى الله وما عليه من خطيئة). رواه أحمد وغيره.
حاولت أن أواسيه وأخفف من مصابه فوجدت أني أنا من يحتاج إلى أن يواسيني ويكفكف دمعتي التي سالت على مقلتي ليس جزعاً ولا اعتراضاً فكلا وحاشا ولكن تعجبّاً وثباتاً أمام أولئك الصامدين الذين يواجهون قوة المرض بعزيمة وإصرار ورضا بما كتبه الله وتلكم منزلة ليس كل امرؤ ينالها إلا من وفقه الله، وأحسب أن أبا فيصل ممن نالها ولا أزكي على الله أحدا، وقد ورد عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال (إن العبد إذا سبقت له من الله منزلة لم يبلغها بعمله ابتلاه الله في جسده أو في ماله أو في ولده ثم صَبّرَه على ذلك حتى يُبلغه المنزلة التي سبقت له من الله تعالى). رواه أبو داود وغيره، وصححه الألباني.
غادرنا أبو فيصل بصمت دون ضجيج وبقلب سليم دون عداوة أو شحناء أو حقوق للغير، وهذا ما جعل جنازته مشهودة كما جاء عن الإمام أحمد حين قال (موعدهم يوم الجنائز)، في إشارة إلى أن يوم الجنازة دلالة على حب الناس أو العكس!
لم يكتب الله لي أن أشهد جنازته لبعد الفارق المسافي بيني وبين موطني التويم بسدير، لكن حضرت ذكره الحسن ودعوات المحبين له في قنوات التواصل الاجتماعي الحديثة، فهنيئاً له تلكم المنزلة التي جعلت له ذلكم القبول ولعمري ذلكم الفخر وكفى:
قد مات قوم وما ماتت مكارمهم
وعاشَ قوم وهم في الناس أموات
إن قيل: مات فلم يمت من ذكره
حيٌّ على مرِّ الأيّام باقي
عزائي يتجدد لوالدته المسنة متعها الله بطاعته ولأخيه ورفيق دربه الأستاذ خالد ولأبنائه فيصل ومحمد وعبدالإله وعبدالعزيز وبناته جعلهم الله خير خلف لخير سلف، والعزاء موصول لزوجته الصابرة المحتسبة رزقها الله ثباتاً ويقيناً، العزاء للأعمام ولأسرة النغيمش كاملة وكذلك أسرتي الواصل والمنيف، سائلاً المولى أن يغفر له ويرحمه ويعلي منزلته ودرجته وأن يجعل ما أصابه تكفيراً لسيئاته ورفعة لدرجاته إنه على ذلك قدير وبالإجابة جدير.