ليس هناك مدينة تصنع التاريخ هذه الأيام بل ولحظات قراءتكم هذه السطور كما تفعله غزة التي تقدم طوابير شهدائها رجالاً ونساءً وولداناً، فلا يزيد هذا أهلها إلا رسوخاً وثباتاً كمثل الوتد لا يزيده الطرق إلا تثبيتاً في الأرض. لم أنسَ مشهد ذلك الصياد الغزاوي في مقابلة له مع (العربية) وهو يؤكد إصرارهم على مواصلة الحياة والكفاح برغم استشهاد أربعة من أبناء عائلته،
وهم الذين يمتهنون صيد السمك منذ ما يزيد على المائة سنة، فيا لهذا الشعب الذي لا يعرف معنى للاستسلام والرضوخ. في مقالي (شاهد من أهلها) في هذه الصحيفة بتاريخ 14-7، والذي تطرقت فيه لرفض فئة من اليهود العقلاء للصهيونية والاحتلال والعربدة الإسرائيلية في فلسطين المحتلة، وذكرت بالخصوص منظمة (ناطوري كارتا) والتي تقف إلى جانب الحق الفلسطيني وتنادي بعودة الأرض إلى أصحابها، بل وإنهاء الوجود الإسرائيلي بالكامل. وبعد نشر المقال بوقت وجيز تلقيت رسالة تأكيد من قائد المنظمة في القدس الشريف رابي مير هيرش لأهداف المنظمة ولرفضها للصهيونية واحتلالها لفلسطين وجرائم التقتيل والتشريد لهذا الشعب الصامد، مرفقاً بها رسالة منظمة ناطوري كارتا إلى قيادات العالم ومنظماته الحقوقية والإنسانية، وملخصها أن الناجين من محرقة الهولوكوست يرفضون تكرار ما جرى لهم بحق الفلسطينيين، وأنهم يرفضون إقامة دولة لليهود من الأساس. ثم أرسل لي على بريدي الإلكتروني زيارة عدد من أعضاء هذه المنظمة للجرحى من أهالي غزة في مستشفى في القدس وبتقديم الورود والهدايا الرمزية مواساة ودعماً لهم ورفضاً للجرائم الصهيونية. ويمكن للقراء الكرام الاطلاع على تلك العريضة الدولية ونشاطات هذه المنظمة التي تتمركز في نيويورك ولندن والقدس على الرابط nkp@neto.bezeqint.net، على أني أشكر لقائد المنظمة تجاوبه واهتمامه لما يكتب أو يعرض في الصحافة والإعلام العربي عموماً ومنها المقال السابق كما ذكرت، مما يعد شجاعة من أعضاء هذه المنظمة ووقوفاً ضد الطوفان ومع الحق العربي، فهذه إنسانية نادى بها ديننا وجميع الأديان السماوية ونحييها فيهم.
وبمناسبة الحديث عن رفض عقلاء اليهود للصهيونية والاحتلال، لعله من المفيد التذكير بأن أحد أعظم علماء العالم وصاحب نظرية النسبية ألبرت آينشتاين هو الآخر قد رفض منصب رئيس دولة إسرائيل الذي عرضه عليه مؤسسو الكيان الصهيوني عند قيامه عام 1948م، ولكم أن تستنتجوا معنى رفض هذا العالم وغيره من عقلاء اليهود كيان كهذا يقوم على غصب أرض بشعبها لصالح شعب بلا أرض.
الصورة هذه الأيام لا تصفها كلمات أو سطور في غزة المكلومة، صورة تتشح بالسواد والأحمر، لكن لمن يتأمل في تفاصيلها وخلفياتها يدرك أن هذا الكيان المسعور يتصرف تصرف المرعوب حد الجنون، والمتيقن من أنه منحدر إلى نهايته المحتومة. ألم يقل شارل ديغول الرئيس الفرنسي الأسبق بعد حرب يونيو 67 التي هزم فيها العرب مخاطباً الإسرائيليين ما معناه (كفى، لا تتمادوا فقد ضربتم ضربتكم وانتصرتم لكن يجب أن لا تنسوا أن العرب أكثر عدداً منكم ويحيطون بكم ويوماً ما سينتصرون عليكم لأنهم هم أصحاب الأرض). كما لا ننسى أنه رغم صفوف الشهداء والجرحى كل يوم من أهلنا في غزة إلا أن إسرائيل تتعرى أمام العالم ويظهر قبحها المقزز للعالم أجمع، كما وأن الإعلام العالمي لا يعرض لخسائر الجيش الإسرائيلي من جنود وعتاد وما تكبده هذه الحرب لحكومة الاحتلال من أموال طائلة ورهاب وفزع للمجتمع الصهيوني وتراجع لسياحهم واقتصادهم. والأمر الآخر تعري الدعم الأمريكي والغربي الأعمى لهذا الكيان المأزوم، فلك الله يا غزة.