الأصل في هذه المادة اختبارُ المطعوم بطرف اللسان، ثم تُوُسِّع به لكل اختبارٍ باللسان وغيره، للمطعوم وغيره.. والذوق في النص الأدبي فِعْلُ الأديب ومفعولُه؛ ففعله إدراكه القِيَمَ الجمالية بداهة، ومفعوله ما انتقاه من نصوص يحكمها إدراكه الجمالي..
قال ابن فارس: (الذال والواو والقاف أصل واحد، وهو اختبار الشيء من جهة تطعُّمٍ، ثم يُشتقُّ منه مجازاً.. يقال: (ذقت المأكول أذوقه ذوقاً، وذقت ما عند فلانٍ بمعنى اختبرته).. وفي كتاب الخليل: (كل ما نزل بإنسان من مكروه فقد ذاقه).. ويقال: (ذاق القَوْس إذا نظر ما مقدار إعطائها، وكيف قوتها قال:
فذاق فأعطته من اّْلِلين جانباً
كفى وَلهاً أن يُغْرِق السهم حاجز)
[مقاييس اللغة ص370-371.. دار إحياء التراث العربي ببيروت - طبعتهم الأولى عام 1422هـ].
قال أبو عبدالرحمن: الذي في تهذيب اللغة 9-262 الدار المصرية للتأليف والترجمة: ((وكذلك ما نزل بإنسان من مكروه فقد ذاقه))، ثم قال بعد ذلك بسطور ص 263:: ((ويقال (ذُق هذا القوس) أي اِنْزَعْ فيها، لتَخْبُرَ لِينَها وشِدَّتها)).. ثم ذكر بيت الشماخ، وشرحه بقوله: ((وجاء في الحديث: إن الله لا يُحبّ الذَّوّاقين والذَوّاقات.. قال: وتفسيره ألا يَطْمئِنَّ ولا تطمئن.. كُلَّما تزَوَّجَ أو تزوجَتْ كَرِهاً وطَمحًا إلى غير الزَّوج.. ويقال: (ذُقتُ فلاناً) أي: خَبَرْتُه وَبُرْتُه، واستَذَقْتُ فلاناً إذا خَبَرْتَه فلَم تَحْمد مَخْبِرَتَه. ومنه قوله:
وعهدُ الغانيات كَعهدِ قَيْنٍ
وَنَتْ عنه الجَعائلُ مُسْتذاقِ
وقال الله جلّ وعزّ: {فَذَاقَتْ وَبَالَ أَمْرِهَا} (9) سورة الطلاق أي: خَبَرته، والذَّوْق يكون فيما يُكرَه ويُحمَد.. قال الله جلّ وعزّ: {فَأَذَاقَهَا اللّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ} (112) سورة النحل، أي ابتلاها بسوءِ ما خَبَرتْ مِن عقاب الجوع والخوف، وضَرَب لباسَها مثلاً؛ لأنَّهما شَمِلاهم عامة)).
وَخَرَّج الأستاذ عبدالسلام الشواهد؛ فأحال إلى كتاب الحيوان للجاحظ 3-22، وديوان المعاني 2-59، والبيان والتبيين للجاحظ 1-150، ولسان العرب في مادة (ذوق).. وفي تهذيب اللغة زيادة فوائد، فقد نقل عن الليث أن الذوق مصدرُ (ذاق)، وذكر من المصادر مَذاقاً وذَوَاقاً، ثم علَّق بقوله: ((فالذَّوَاقُ والمَذَاق يكونان مصدرين، ويكونان طَعماً كما تقول: ذَوَقُهُ ومَذَاقَهُ طيِّب)).. ثم قال: ((أي: نَظَرَ إلى القوْس ورازَها.. وقوله: (كفى) أي: وكفى ذاك اللِّين منها.. وقوله: (ولهاً أن يُغرق النبل حاجز) أي: لها حاجزٌ يَمنعُ مِن إغراق النَّبْل.. أي فيها لينٌ وشدَّة بمقدارِ وَفْقٍ، ومثله:
في كَفِّه مُعْطِيَةٌ مَنُوع
وقال آخر:
شِريانةٌ تَمنَع بعدَ اللِّينِ
وقال ابن مُقبل:
أو كاهتزازٍ رُدَينيَ تَذاوَقَهُ
أيْدِي التِّجارِ فَزادُوا مَتْنَه لِينا))
ثم قال: ((وذاقَ الرجلُ عُسَيلةَ المرأة إذا أولجَ فيها أذاقَهُ حتَّى خبَرَ طِيبَ جِمَاعها، وذاقت هي عُسَيلته كذلك؛ لَمَّا خالَطَها فوَجَدَتْ حلاوةَ لَذَّةِ الخلاط.. وعن ثعلب عن ابن الأعرابي: {فَذُوقُواْ العَذَابَ} (30) سورة الأنعام، قال: الذَوْق يكون بالفَم وبغير الفَم.. وقال غيره: أَذاقَ فلانٌ بَعدَك سَرْوَاً.. أي صارَ سَرِيّاً، وأَذاقَ بَعدَك كرماً، وأَذاقَ الفَرسُ بَعْدك عَدْواً.. أي صار عَدَّاءً بعدَك.. ورجل ذَوَّاق: مِطْلاق إذا كان كثير النكاح كثير الطلاق، ويقال: ما ذُقْتُ ذَواقاً وهو ما يُذاق من الطعام)).
قال أبو عبدالرحمن: لكل ما مضى وقفاتٌ إن شاء الله تعالى. وقال الراغب: ((الذوق وجود الطعم بالفم، وأصله فيما يقِلُّ تناولُه دون ما يكثر؛ فإن ما يكثر منه يقال له: (الأكل).. وَاخْتِير في القرآن لفظُ الذوق [الأسلمُ كلمة الذوق] في العذاب؛ لأن ذلك وإن كان في التعارُف للقليل مُصْطَلَحٌ للكثير؛ فخصه بالذكر ليَعَّم الأمرين، وكثر استعماله في العذاب نحو: {لِيَذُوقُواْ الْعَذَابَ} (56) سورة النساء، ويُعبَّر به عن الاختبار، فيقال: أذقته كذا فذاق، ويقال: فلان ذاق كذا، وأنا أكلته: أي خبرته فوق ما خَبَر)).. [المفردات ص 332.. قال أبوعبد الرحمن: طبيعة الذوق الاكتفاء بالقليل بمقدار الاختبار، ثم تُجِّوز به لقليل الأكل].
قال أبو عبدالرحمن: والعوام يُسمُّونَ الأكلَ القليل ذْوَاَقة؛ فهم لا يحقِّقون في أكثر عادتهم النُّطق في الفصيح؛ فيقولون مثلاً عن ((شُمَامَةٍ)) للشيء القليل شْمَامَةْ بسكون الشين المُهملة.. ومهما كثر الذوق فإنما هو بطرف اللسان، فلا يُسمَّى أكلاً إلا إذا صُرِف إلى المجاز كما أسلفتُ؛ لأن الأكل عملية أخرى غير عملية الذوق يدخل فيها مضغ اللسان، وبَلْعُ الطعام].. وقال أبو البقاء الكفوي: ((الذوق هو عبارة عن قوة مرتبة في العصبة البسيطة على السطح الظاهر من اللسان من شأنها إدراك ما يرد عليه من خارج الكيفيات الملموسة، وهي الحرارة والرطوبة والبرودة واليبوسة.. والذوق في الأصل تعرُّف الطَّعْمِ، ثم كثر حتى جُعِلَ عبارةً عن كل تجرِبة.. يقال: ذقت فلاناً، وذقت ما عنده.. وقد اسُتُعْمِل الإذاقة في الرحمة والإصابة في مقابلتها.. قال تعالى: {وَإِذَا أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً} (21) سورة يونس، وقال: {وَإِن تُصِبْهُمْ} (48) سورة الشورى؛ تنبيهاً على أن الإنسان بأدنى ما يُعْطَى من النعمة يبطر ويأشر.. والذوق والطبع قد يُطلقان على القوة المهيِّئةِ العلومَ من حيث كمالها في الإدراك بمنزلة الإحساس من حيث كونُها بحسبِ الفطرة، وقد يُخَصَّ الذوق بما يتعلق بلطائف الكلام؛ لكونه بمنزلة الطعام اللذيذ الشهي لروح الإنسان المعنوي.. والطبعُ [أي وقد يُخَصُّ الطبع] بما يتعلق بأوزان الشعر، لكونها بمحْض الجِبِلَّة مِن حيثُ لا ينفع فيها إعمال الجبلة إلا قليلاً، والذوق بالفم فيما يَقِلُّ؛ فإن كثر قيل فيه: أكل وشرب [الكلِّيات ص 462]، وقال الجرجاني: ((الذوق: قوةُ منْبَثَّة في العصب المفروش على جِرْم اللسان تُدْرك بها الطعوم بمخالطة الرطوبة الّْلُعابية في الفِمِ بالمطعوم ووصولها إلى العصب، والذوق في معرفة الله عبارة عن نور عِرْفاني يقذفه الحق بتجلِّيه [قال أبو عبد الرحمن: يريد بالحقِّ الله جلّ جلاله، ودعوى تجلِّي الحق لعبدٍ من عباده لا تُقبَل إلا بدليل] في قلوب أوليائه يفرّقون به بين الحق والباطل من غير أن ينقلوا ذلك من كتاب أو غيره [التعريفات ص 107].. وقال الدكتور جميل صليبا: ((الذوقُ حاسَّةٌ تُدْرَك بها الطعومُ من حلو ومالح ومُرٍّ وحامض، وآلته الأعصابُ الحِسِّية المنبثَّة في اللسان، وقد يَتَّسِعُ معناه فيطلق على كل تجرِبة.. تقول: (ذقت فلاناً، وذقت ما عنده)، والذوق أيضاً قوةٌ إدراكيةٌ لها اختصاص بإدراك لطائف الكلاممحَاسِنه الخفية، وقد يُطَلق على ميلِ النفس إلى بعض الأشياء كتذوُّقِ المطالَعة والأحاديث الجميلة، ويرادِفه حسن الإصغاء، وشِدَّة الانتباه، وكثرة التعاطف.. وقد يطلق الذوق أيضًا على القوة المُهَيَّئةَ العلومَ من حيث كمالُـها في الإدراك بحسب الفطرة، أو على حِذْق النفس في تقدير القِيمَ الخُلُقِيَّة والفنية كقدرتها على إدراك المعاني الخفية في العلاقات الإنسانية، أو قدرتها على الحكم على الآثار الفنية كالشعر والأدب والموسيقى بطريق الإحساس والتجرِبة الشخصية دون التقيد بقواعد معينة، وتسمى القدرة على تذوق الفن طبعاً.. تقول: (فلان مرهف الذوق) أي رقيق الطبع.
وقد يراد بالذوقِ الذوقُ السليم مُطْلَقاً، وهو الحكم على الأشياء حكماً صادقاً ودقيقاً [المعجم الفلسفي 1-597-598])).. وقال مجدي وهبة وزميله: ((الذوق قوة مرتبة في العصب المفروش على جرم اللسان تُدرِك الطعومَ المتحلِّلة من الأجرام المُماسَّة له، المخالطة للرطوبة اللُّعابية التي فيه؛ فتستحيل إليه [عن ابن سينا في النجاة]، وقدرة الإنسان على التفاعل مع القيم الجمالية في الأشياء وخاصة في الأعمال الفنية، ونِظام لإيثار مجموعة محدَّدة من القيم الجمالية نتيجة لتفاعل الإنسان معها.. وفي تاريخ الآداب الغربية يرجع ذيوع مفهوم الذوق الأدبي إلى القرن السابع عشر مع ظهور النزعة الكلاسيكية المحدثة، والذوق أحد مقاييس النقد الأدبي عند العرب، وهو عند الآمدي [371هـ] ثلاثة أقسام: الطبع وهو القوة التي فُطِر عليها الناقد، والحِذْق وهو القوة التي يكتسبها الناقد بالمران والدربة، والفطنة وهي امتزاج الطبع بالحذق.. وصاحب الفطنة أقدر على الحكم من صاحب الطبع أو صاحب الحِذْق وحده، والذوق العامُّ مجموع تجارِب الإنسان التي يُفَسِّر على ضوئها ما يحسه أو يدركه من الأشياء، ويسمى الإدراك السليم)).. [معجم المصطلحات ص 173].
قال أبو عبد الرحمن: لم أضرب بَعْدُ في عُمْقِ النظرية الجمالية، ولذلك حديث يأتي إن شاء الله، والله المُستعان وعليه الإتكال.