قال أبوعبدالرحمن: ألححتُ كثيراً على التَّذكير بأن المعنى اللغوي أعمُّ من مراد المتكلم؛ فلابد حينئذٍ من مُرَجِّح للمراد، وهذا الرجحان من الظواهر التي لا يجوز حمْلُ الكلام على غيرها؛ لأن الظاهر هو مقتضى النص الذي يريده الـمُتكلِّم بمرجِّحاته سواء أكان ظاهراً لغوياً أم لا؟! ..
وإنما شرْطُ الظاهر اجتماعُ دليلي التصحيح والترجيح، وأضرب المثال لذلك بخلافٍ في تفسير أمر الله في خبره الصادق بقوله تعالى في مطلع سورة النحل:{أَتَى أَمْرُ اللّهِ فَلاَ تَسْتَعْجِلُوهُ} وأمر الله عام لكل تدبير منه سواءً أكان كونياً أم شرعياً من رزق وولادة وعذاب ورحمة وإغاثة وغرق.. إلخ.. إلخ .. إلا أن هذا الأمر العام معيَّنٌ في هذه السورة الكريمة بأنه قيام الساعة؛ لأن كلام الله في إجماله وعمومه وإطلاقه يُفسَّر بالمعهود الشرعي من الذكر الحكيم.. ونحن نجد في هذا النص الكريم الخبر بصيغة {أَتَى} التي هي للفعل الماضي عن أمر لم يأتِ بعد؛ بقرينة {فَلاَ تَسْتَعْجِلُوهُ} الدَّالة على المستقبل .. أي فلا تستعجلوه إذْ لم يأتِ بَعْدُ؛ إذن عندنا إخبار من الله بالإتيان بصيغة الماضي، وعندنا إخبار عن قوم من المخاطبين بأنهم مستعجلون هـذا الإتيان الذي لم يأتِ بَعْدُ؛ فوجدنا في المعهود الشرعي من الذكر الحكيم {اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانشَقَّ الْقَمَرُ} [1/سورة القمر]؛ فهذا إخبار عن دُنُوِّ وقتِها.. ومثلُ ذلك قوله {اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مَّعْرِضُونَ} [1/سورة الأنبياء] وإنما الحساب بعد قيام الساعة.. والمخاطبون المَنْهِيُّون عن الاستعجال قوم مشركون؛ لأن الله قال عنهم في الآية نفسها: {سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ}.. وقد عهدنا في الذكر الحكيم أن هؤلاء يستعجلون الساعة كما في قوله تعالى:{يَسْتَعْجِلُ بِهَا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِهَا وَالَّذِينَ آمَنُوا مُشْفِقُونَ مِنْهَا وَيَعْلَمُونَ أَنَّهَا الْحَقُّ أَلَا إِنَّ الَّذِينَ يُمَارُونَ فِي السَّاعَةِ لَفِي ضَلَالٍ بَعِيدٍ} [18 سورة الشورى] .. وقال تعالى:{وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ وَلَوْلَا أَجَلٌ مُّسَمًّى لَجَاءهُمُ الْعَذَابُ وَلَيَأْتِيَنَّهُم بَغْتَةً وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ يَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكَافِرِينَ} [سورة العنكبوت/53 - 54].. والله لم يَعِدْ الكفار بعد بعثة عبدالله ورسوله محمدٍ-صلى الله عليه وسلم- بعذاب مستأصِلٍ لهم في هذا السياق، بل وعدهم أجلاً مسمى مؤقَّتاً لكل واحد، ووعدهم بأجلٍ مُسمَّى مؤقت لقيام الساعة سيشهده للحساب كلُّ مكلف، والبرهان ههنا على أنَّ المرادَ قيام الساعة اقترانُ ذِكْرُ جهنَّم بالعذاب في قوله سبحانه وتعالى: {يَسْتَعِْلُونَكَ بِالْعَذَابِ وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكَافِرِينَ}، والكافر يعلم مصيره مِنْذ النشور بدلائل كثيرة منها قوله تعالى:
{وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ مَا يَنظُرُونَ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً تَأْخُذُهُمْ وَهُمْ يَخِصِّمُونَ فَلَا يَسْتَطِيعُونَ تَوْصِيَةً وَلَا إِلَى أَهْلِهِمْ يَرْجِعُونَ وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَإِذَا هُم مِّنَ الْأَجْدَاثِ إِلَى رَبِّهِمْ يَنسِلُونَ قَالُوا يَا وَيْلَنَا مَن بَعَثَنَا مِن مَّرْقَدِنَا هَذَا مَا وَعَدَ الرَّحْمَنُ وَصَدَقَ الْمُرْسَلُونَ إِن كَانَتْ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً فَإِذَا هُمْ جَمِيعٌ لَّدَيْنَا مُحْضَرُونَ} [سورة يس/ 48-53]، وَيَدلُّ على أن المرادَ قيامُ الساعة أن في السياق أخْذَ العذاب إيَّاهم بغتة، والعذاب الدنيوي لا يأتي بغتة، بل الرسول يُنْذِرُ أمَّته عَقِبَ معصيتهم إذْ لم ينفع طول الإنذار والتبشير، ومنهم من يُحَدِّد لهم أجلاً كرسول الله صالحٍ عليه السلام بَعْدَ عَقْرِ قومِه الناقة
كما أخبر الله عنه في قوله تعالى: {فَعَقَرُوهَا فَقَالَ تَمَتَّعُواْ فِي دَارِكُمْ ثَلاَثَةَ أَيَّامٍ ذَلِكَ وَعْدٌ غَيْرُ مَكْذُوبٍ} [سورة هود/ 65]، ولا يعارض ذلك أن أصحاب مدين يطمعون بالنجاة لما نزلت عليهم الظُّلة؛ فالظُّلَةُ نفسُها جاءتهم بغتةً، وهي جُزء من العذاب باغتتهم ولم تُمْهِلهم .. وإن كان العذاب بالقتل في الحرب سواء أكانت الحرب بَغْتَةً أو عن ميعاد ليست دالَّةً على هزيمة طرفٍ مُعَيَّنٍ مِن الطرفين وإثخانه، بل كل واحد يرجو النصر بخلاف عذاب الله في استئصال الهالكين فهو مُؤكَّد عندهم منذ نزوله .. ومَنْ ذهب إلى أن إتيان السـاعة ليس هو ظاهرَ المرادِ الشرعي، بل الظاهرُ من إتيان أمر الله ظهور الدين، واندحار الكفار، وحلول العذاب الذي هو القتل بصناديد الكفار؛ فقد ذكروا مثالَ ذلك من قصة بدر الكُبرى، وأيَّدوا رأيهم بأن السورة في جملتها مكِّية، وأن نصر الإسلام يبدأ بالهجرة، وأنَّ الخبر عن مجيئ الساعة يأتي شرعاً بصيغة الاقتراب، أو بصيغة المستقبل لا بصيغة الإتيان الماضي، وأنه ورد النص الصريح بأن الساعة لم تأتِ بعد، ولكنها ستأتي كما في قوله تعالى:
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَنفِقُواْ مِمَّا رَزَقْنَاكُم مِّن قَبْلِ أَن يَأْتِيَ يَوْمٌ لاَّ بَيْعٌ فِيهِ وَلاَ خُلَّةٌ وَلاَ شَفَاعَةٌ وَالْكَافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ} [سورة البقرة/ 254]،
وقوله:{فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ الْقَيِّمِ مِن قَبْلِ أَن يَأْتِيَ يَوْمٌ لَّا مَرَدَّ لَهُ مِنَ اللَّهِ} [سورة الروم /43]، وقولـه: {وَلَوْ أَنَّ قُرْآنًا سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبَالُ أَوْ قُطِّعَتْ بِهِ الأَرْضُ أَوْ كُلِّمَ بِهِ الْمَوْتَى بَل لِّلّهِ الأَمْرُ جَمِيعًا أَفَلَمْ يَيْأَسِ الَّذِينَ آمَنُواْ أَن لَّوْ يَشَاء اللّهُ لَهَدَى النَّاسَ جَمِيعًا وَلاَ يَزَالُ الَّذِينَ كَفَرُواْ تُصِيبُهُم بِمَا صَنَعُواْ قَارِعَةٌ أَوْ تَحُلُّ قَرِيبًا مِّن دَارِهِمْ حَتَّى يَأْتِيَ وَعْدُ اللّهِ إِنَّ اللّهَ لاَ يُخْلِفُ الْمِيعَادَ}[سورة الرعد/31]، وردَّ الله على المستعجلين بأنها ستأتيهم بغتة؛ فهي لم تأتِ بعد.. قال تعالى:{بَلْ تَأْتِيهِم بَغْتَةً فَتَبْهَتُهُمْ } [سورة الأنبياء/40].. وقال تعالى بصيغة المستقبل: {إِنَّ السَّاعَةَ ءاَتِيَةٌ}[سورة طه /15] .. ومع إخفاء الله العلم بوقت قيام الساعة جاء النص صريحاً بقربها كما مضى من سورتي الأنبياء والقمر، وإيماءً كما في قوله تعالى:
{وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ تَكُونُ قَرِيبًا}[سورة الأحزاب /63]، وقال تعالى:{وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ قَرِيبٌ}[سورة الشورى/17].. واستدلُّوا بأنه جاء الوعد بإتيان الأمر لغير الساعة كما في قوله تعالى: }{فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ يُسَارِعُونَ فِيهِمْ يَقُولُونَ نَخْشَى أَن تُصِيبَنَا دَآئِرَةٌ فَعَسَى اللّهُ أَن يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِّنْ عِندِهِ فَيُصْبِحُواْ عَلَى مَا أَسَرُّواْ فِي أَنْفُسِهِمْ نَادِمِينَ}[سورة المائدة /52]، وبأنَّ استعجال الكفار ورد أيضاً في العذاب الدنيوي كما في قوله تعالى عنهم: {وَقَالُوا رَبَّنَا عَجِّل لَّنَا قِطَّنَا قَبْلَ يَوْمِ الْحِسَابِ}[سورة ص/16]، وقال تعالى:{وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ وَلَوْلَا أَجَلٌ مُّسَمًّى لَجَاءهُمُ الْعَذَابُ وَلَيَأْتِيَنَّهُم بَغْتَةً وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ}[سورة العنكبوت/53].
قال أبوعبدالرحمن: يكون هذا الاستدلال صحيحاً لو أنَّ سورة الأنبياء مكية؛ فالاستدلالُ ليس حقيقيّْاً، بل هو مُثالٌ للاستدْلال الذي ذكروه، وهو أنَّ المرادَ قتلُ صناديد قريش في بدر الكبرى .. وكذلك الاستدلالُ بأن أَمْرَ الله هو عذابهم يوم بدر؛ فيكادُ القول يكون صحيحاً لو أن الله سبحانه وعد الكفار بعد بعثة محمد-صلى الله عليه وسلم- عذاباً دُنْيَوِياً يستأصِلهم كما أنذر نوح وهود وصالح ولوط وشعيب عليهم السلام أقوامهم بذلك؛ وإنما حذَّرهم من الموت على الكفر، وأنذرهم بالحساب، وحذرهم من مَغبَّات ما يعجِّله الله لبعضهم في الدنيا من قتل وجلاء أو مصائب .. وأما الاحتجاج بأن الخبر عن الساعة جـاء بصيغة القرب فأمر ليس محل خلاف، والاقتراب على بابِه ليس فيه مجاز إلا أنه اقتراب نسبي كما سيأتي بيانه بعد قليل إن شاء الله؛ فاقتراب على وضعها بأنها للماضي، وليست للماضي بمعنى المستقبل .. ولكنَّ هـذا الأمر الصحيح لا يمنع من الإتيان بصيغة الماضي إذا كان في لغة العرب الدليل على أن الماضي يأتي بمعنى المستقبل القريب؛ لنكتة بلاغية.. كما أن محلَّ الخلاف هو وَجْهُ الدلالة [أيْ تبيانُ معنى صيغةِ مالم يأتِ]، وليس الخلاف في صحة هذا الإتيان.. وبعد هذا كلَّه فذلك الاحتجاج فضول؛ لأن مجيئ صيغة أتى بمعنى سيأتي من كلام
العرب بالاستقراء المُدَوَّنِ في النحو الثاني [البلاغة]، ولم يُفسِّر أي عالِمٌ صيغةَ {أَتَى} بمعنى الماضي، بل جعلها بمعنى المستقبل؛ وإنما فسَّر الوجهَ البلاغيَّ الكثيرَ في لغة العرب في التعبير بالماضي والمراد المستقبل.. فسَّرُوا هذا الوجه بتحقُّق الوقوع لا محالة، وأن هذا الذي سيتحقق قريب.. وبرهان قربه أنه نِسبِيٌّ؛ لأنَّ نِسْبة ما مضى قبل الساعة وما سيأتي قبلها أيضاً كنسبة ما بين الأُصبُعِ السبابة والأصبع الوسطى، وبأن العمر يمضي؛ فيكون عند الوداع كأنه حلم، وكل مَنْ مات فقد قامت ساعته، وعايَن حقيقةَ الوعد والإيعاد.. والظاهرُ الشرعي ليس من الـمُحتَّم أن يكون ظاهراً لغوياً، بل هو ظهورُ المراد بدليلي التصحيح والترجيح؛ فأمَّا التصحيح فهو صحة التعبير لغة بالماضي عن المستقبل لمعانٍ بلاغية، وكانت الحِلْيةُ البلاغية ههنا بحمد الله موافقة نصوصَ الخبر بالمستقبل عن اقتراب الساعة .. وأمَّا الترجيح فهو إحالة أن المراد العذاب الدنيوي؛ لأن الله لم يتوعَّدهم بعذاب دنيوي مستأصِل يدخل فيه كل كافر مُخاطَب، ولم يقع ذلك تاريخياً في أهل الأديان الثلاثةِ الباقية إلى يوم القيامة، ولكنه قد يستأصل طائفةً منهم كأصحاب السبت من اليهود.. ولأن الآيات عن استعجال الكفار بالعذاب لم يَرِد فيها الرد عليهم بصيغة الماضي، بل قال تعالى:{ فَعَسَى اللّهُ أَن يَأْتِيَ}، وقال: {ولَوْلَا أَجَلٌ مُّسَمًّى}؛ فهذا عن المُسْتَقْبل إلا أن صيغة [عسى] تأتي لرجاء المخاطَب؛ لأن الله سبحانه لا يرجو خَلْقه؛ فإذا كان الرجاء منهم كان تعليمُ الله لهم وعداً منه بالمغفرة على سبيل الرجحان إذا لم يَحْبِطْ العملُ بكفر، وإذا سَلِم الراجي من الإصرار على إحدى الكبائر، ولم ترجح سَيِّئاته؛ فهو تحت المشيئة، ولا يُخَلَّد في النار؛ فإن عَذَّبه رَبُّه تأخَّر تحقيق وعد الله له إلى حين انتهـاء أجل عـذابه؛ وله وعد من الله آخرُ في دنياه رجحانيٌّ أن لا يُضِلَّه ويختم له بسوء؛ لعلمه بما في قلـبه؛ فما أوردوه على {أَتَى} بمعنى إتيان الساعة وارد أيضاً على صيغة الماضي بمعنى إتيان العذاب الدنيوي.. والله سبحانه فرَّق في الوعد بين الأمرين في قوله تعالى بعد كلامه عن الأمم التي أهلكها:
{قُلْ مَن كَانَ فِي الضَّلَالَةِ فَلْيَمْدُدْ لَهُ الرَّحْمَنُ مَدًّا حَتَّى إِذَا رَأَوْا مَا يُوعَدُونَ إِمَّا الْعَذَابَ وَإِمَّا السَّاعَةَ فَسَيَعْلَمُونَ مَنْ هُوَ شَرٌّ مَّكَانًا وَأَضْعَفُ جُندًا} [سورة مريم /75]؛ فكان الوعد بالعذاب الدنيوي العام لمن هلك من الأمم، وكان الوعد والتحذير لأمة محمد -صلى الله عليه وسلم- من سوء الخاتمة عند الموت، ومن الساعة، ومِن استئصالِ طائفة منهم، وكل من مات فقد قامت قيامته .. بل فرَّق الله في سورة النحل نفسِها بين أمر الله وبين الموت؛ فقال تعالى عن قبض الملائكة الأرْواحَ وعن الساعة التي يعم أمرُها من مات ومن سيموت عندها في قوله تعالى: {هَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ أَن تَأْتِيَهُمُ الْمَلائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ أَمْرُ رَبِّكَ} [سورة النحل/33].. ولا يمكن أن يكون أمـره سبحانه في الآية الكريمة عذابَه الدنيويَّ المستأصِل؛ لأن نتيجة العذاب الدنيوي المستأصِل إتيان الملائكة عليهم السلام وقبضهم الأرواح، وأما عذابه بِشِدَّة غير الموت فصحيح من غير هذه الآية كما في سورة الدُّخان، وكما في عذاب الله لبني إسرائيل بالشدة مِن القُمَّل والضفادع .. ويدل على إرادة معنى القرب ابتداءً وقوع علامات الساعة الصغرى التي تعقبها بسرعة مذهلة في حسبان الناس علاماتُها الكبرى .. وقد عبَّر عن هذا المعنى الذي أوضحتُه الزجاج رحمه الله بقوله:{أَمَرَ اللَّهُ } ما وَعَدهم الله به من المجازاة على كفرهم من أصناف العذاب، والدليل على ذلك قوله: {حَتَّى إِذَا جَاء أَمْرُنَا وَفَارَ التَّنُّورُ}[سورة هود/ 40] أي جاء ما وعدناهم به، وكذلك قوله {أَتَاهَا أَمْرُنَا لَيْلاً أَوْ نَهَارًا فَجَعَلْنَاهَا حَصِيدًا}[سورة يونس/ 24]؛ وذلك أنهم استعجلوا العذاب، واستبطأوا أمْرَ الساعة؛ فأعلم الله عز وجل أن ذلك في قُرْبهِ بمنزلة ما قد أتى كما قال:{اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانشَقَّ الْقَمَرُ}[سورة القمر/ 1] وكما قال: {وَمَا أَمْرُ السَّاعَةِ إِلاَّ كَلَمْحِ الْبَصَرٌِ} [سورة النحل/ 77]» .. [معاني القرآن وإعرابه 3/189] ، ثم تأوَّل الروح رحمه الله تعالى على الرغم من كثرة توفيقه واحتضانِه مدرسة البصريين في النحو، وهي مدرسة تُعْطي العقل حقَّه، مع عدم غفلته عن مذهب الكوفيين؛ لأنه حريصٌ على التوفيق بين المذاهب النحوية .. ومذهبُ الكوفيين أكثرُ توفيقاً؛ لأنه يأخذ القاعدة من المأثور العربي، ولا يجعل اقاعدة العقلية هي الأسْبق؛ لتكون حاكمة على اللغة؛ فإلى لقاء قريبٍ عن تأويل معنى الروح ههنا، والله المستعان وعليه الاتكال.