أطل العيد بجبينه الواضح على قوم واقعهم كالح، وأطل وهو يكاد يبكي لسوء ما يرى من عويل النساء ونياح الثكالى وبكاء الأطفال ودهشة الرجال.. دماء تسيل، وخلق يميل، وجهل الجاهل يبتز عقل العاقل.. صراع على وهم، وأنهار من دم، والحكمة نائمة، والفطنة سائمة، والسجايا مائعة، والفتنة ضائعة.
فئات تتقاتل في ليبيا، وكلهم يهللون ويكبرون، لكن كل فئة تلعن أختها، وهم يقولون إن دم المسلم على المسلم حرام، كما هو ماله وعرضه. ولم يشتد القتال إلا في شهر رمضان. ولست أعلم هل يرون في ذلك احتساباً للأجر؟ فوا عجبي! ندعو الله السلامة.
وفي العراق كلنا نعرف الحال، ونخشى المآل، ونعرف النتائج، ولعلنا لا ننسى الأسباب والدوافع، فإذا عرف المرء السبب ذهب العجب. نرجو من الله أن يعيد السلام إلى بلاد الحضارة الكبيرة والموارد الكثيرة. وفي سوريا هجر الناس، وقُصفت المساجد والكنائس، وصاحت النواقيس والأجراس، وسالت الدماء، وقلّ الطعام، وخف المنام، وضاقت الأنفس، وتيتّم الأطفال، فلا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.
وحلّ العيد وغزة تُقصف بالطائرات من دولة تحتل أرض الغير منذ نصف قرن أو أكثر، دولة قامت على تجميع فئات بعينها من جميع أقطار الأرض لتعيش على تربة غير تربتها، ومنطقة لا تمت لثقافتها أو واقعها بصلة. ومع قدومها رغم أنف أهلها الأصليين، إلا أن هذا الضيف الثقيل لم يهنأ له بال إلا بعد أن طرد أصحاب الأرض وملاك الدور، ودمَّر المساجد والقصور؛ ليكون بدلاً منهم، وليس ليعيش معهم. ورغم احتلالهم إلا أنهم ما زالوا يقصفون دون هوادة، ويهدمون البيوت على أصحابها والعالم يتفرج؛ لأن القوي في هذه المعركة غير المتكافئة مدعومٌ من دول ذات سلطة على المستوى العالمي؛ لأن الإنصاف في العقول قد ضاع، وفي القوانين أضحى مشاعاً، كلٌّ يفسِّره على سجيته وبطريقته التي ترضيه وتستهويه، والويل كل الويل لمن قال لا لما تفعله الدولة المحتلة؛ لأن القوى المالية والأنشطة الاقتصادية تحرك المواقف السياسية، بل تخضع لها، وقد ملك تلك المفاتيح فئة نالتها بأساليبها الخاصة؛ فأضحت سيدة المواقف وزعيمة العالم مع كل أسف.
عاد العيد، ولم يعد بجديد، بل بتجديد لما كان في السنوات القليلة الماضية، التي كانت حافلة بالمآسي، ولِمَ لا؟
يقول المتنبي:
عيد بأية حال عدت يا عيد
بما مضى أو لأمر فيه تجديد
فكم من غني قد افتقر، وكريم قد ذل وانقهر، وشر قد استشر، وكم من أسير يتذكر قصة أحد ملوك الطوائف وهو المعتمد بن عباد الذي أُخذ أسيراً إلى مدينة أغمات المغربية على يد قائد المرابطين يوسف بن تاشفين، وصودرت أمواله، وضاقت حاله، وأصبح أولاده من ضمن المساكين الذين يتصدق عليهم البسطاء من الناس، وهذه قصة مشهورة حسن إيرادها لمناسبتها الحال، فقد قال مخاطباً نفسه في رواية، وتتعدد الروايات بالزيادة والنقصان:
فيما مضى كنت بالأعياد مسروراً
وكان عيدك باللذات معمورا
وكنت تحسب أن العيد مسعدة
فساءك العيد في أغمات مأسورا
ترى بناتك في الأطمار جائعة
في لبسهن رأيت الفقر مسطورا
معاشهن بعيد العز ممتهن
يغزلن للناس لا يملكن قطميرا
يطأن في الطين والأقدام حافية
تشكو فراق حذاء كان موفورا
قد لوثت بيد الأقذاء واتسخت
وقبل كأنها لم تطأ مسكاً وكافورا
والمسك والكافور هذا قصة معروفة، فقد كان لديه زوجة أثيرة، اسمها اعتماد، نسبة إلى اسمه المعتمد، وكانت رميكية الأصل نسبة إلى مالكها السابق، ولهذا تسمى اعتماد الرميكية، وقد كانت واحدة من أكثر من ثمانمائة زوجة ومحصية، لكنها تسيدت على سويداء قلبه، وغادرت معه إلى أغمات بعد أسره، وعاشت هناك حتى توفي وتوفيت.
وفي أيام مجدها ومجده كانت سائرة في أحد أزقة أشبيلية بجانب المعتمد فرأت بعض النساء اللاتي يطأن في الطين، فالتفتت إلى المعتمد وقالت له إني اشتهيت أن أطأ مثليهن على الطين، فقال لها لا عليك. فأمر بأن تبنى بركة في حديقة منزله، وأن تملأ بالمسك والكافور، فتم ذلك، ومن ثم جعلها تسير على تلك البركة تحقيقاً لشهوتها، وقد خاصمته ذات مرة فقالت لم أرَ منك خيراً قط، فقال لها «ولا يوم الطين؟». مذكراً إياها بتلك القصة التي وقعت لها معه.
ربما يكون بعض أسرى هذا الزمان محاكياً لذلك الوضع، وقد يكون حالهم أفضل من أولئك الذين يتموا وشردوا وجرحوا، وتمت إعاقتهم على يد أهلهم وجيرانهم.
حمى الله هذه البلاد من كل مكروه، وأدام عليها الأمن والأمان، وكفانا جميعاً شر الأشرار الذين يتربصون، إما لفكر ضال، أو للسير على دروب الجهال، أو لحقد دفين وحسد مستديم في قلوبهم.