كعادتي في قراءة القصائد والدواوين، قراءة انطباعية لا يداخلها النقدُ ولا يتخللها التحليلُ أبداً، أتوقف عند مقطع أعجبني جداً:
(متوفِّرٌ هو ها هنا..
كلُّ الطواويسِ التي بصَقَتْ على أوطانها
تأتي إلى تلكَ الزوايا..
في مقاهي اليأسِ
في ذُلٍّ وعارْ..
متوفِّرٌ هو دونَ شكٍّ،
في مسلسلةِ البَوَارْ:
لا جمرةُ المعنى أفاقتْ في صقيعِ حديثهِ
أبداً.. ولا نوَّارةُ التشكيل أوصلت الصدى
من مرسلات صروفهِ
فبدا لهُ
أنَّ احتراقَ سبيلهِ
شكوى لهاثِ المستجيرِ
إلى سعير المستجارْ..)!
المقطع من القصيدة الطويلة ذات العنوان الطويل (توثيق عهد بانتصار من أجل تاج الأنبياء) للشاعر عبد الله بن عبد الرحمن الزيد، التي صدرت في كتاب صغير (62 صفحة) يحمل عنوانها، عن دار المفردات بالرياض، وفي التقديم لها يوضح الشاعر أن قصيدته جاءت رداً على قصيدة قصيرة للشاعر العراقي سعدي يوسف نشرها في موقعه الإلكتروني..
لن أدخل في تفاصيل قصيدة سعدي يوسف، فما يهمني هنا هو الصديق الشاعر عبد الله الزيد وقصيدته، فقد اقتطفتُ منها المقطع أعلاه ليس لأنه أعجبني فقط، بل حتى أتمكن من استحضاره سريعاً حين أنوي انتخاب ما يعجبني من قصائد حديثة فلا أضطر إلى البحث بين الكتب، الذي غدا يشبه التنقيب باليدين عن ماء وسط صحراء متخمة بالرمال(!) لماذا؟ لأننا نعيش الآن عصراً توحّدت فيه مصادر البحوث والمراجعات والتقصّي، فأصبح كل ذلك يتم عبر نافذة واحدة هي (الإنترنت) بمحركاته البحثية المتعددة، والتي لا تغفل شيئاً منشوراً أبداً.. أما قصيدة الزيد هذه فمن يضع أي جملة منها على محركات البحث لن يجدها وبالتالي لن يعرف أنها من قصيدة منشورة في كتاب، ذلك لأن الكتب لا تزال تحافظ على انغلاقها حتى لا تنبسط إلا بين يديْ قارئ يشتري الكتاب أو يحصل عليه كإهداء من المؤلف أو الناشر، غير أن معظم - أو ربما كل - الدواوين الشعرية بخاصة، في هذه المرحلة، ما هي إلا (توثيق شعر) سبق نشره في الصحف، فأصبح متوافراً على الإنترنت بحكم أن جميع الصحف الآن لديها مواقع إلكترونية. فلماذا قصيدة الزيد غير موجودة على الشبكة، برغم أنها جاءت رداً على قصيدة لم تنشر إلاّ على شبكة الإنترنت؟!
هنا محور مقالتي، فالصديق عبد الله حين أهداني كتاب قصيدته هذه - قبل أيام - كنا في مناسبة احتفالية بكتاب آخر صدر عن كرسي الأدب السعودي بجامعة الملك سعود عنوانه (التجربة الشعرية في المملكة العربية السعودية - نصوص وشهادات) أعده وحرره الصديق الأديب خالد بن أحمد اليوسف، وكان عبد الله الزيد - كعادته في الكرم ومحبة جمع الأصدقاء - هو الداعي والمضيف لتلك الاحتفالية الجميلة.. وقد ضم الكتاب شهادات لعدد من الشعراء على تجاربهم، كان من ضمنهم عبد الله الزيد الذي قرأتُ في شهادته إصراره العنيد على أن مرحلة (الثمانينيات) هي الشعر كله والأدب كله وهي (تاج) المراحل السابقة وخاتمة اللاحقة(!) ربما - أقول ربما - من أجل تلك القناعة الراسخة عند الصديق عبد الله، والتي أختلفُ معها جملة وتفصيلاً، نجده يعفّ عن نشر قصائده الجديدة في الصحف وكأنه يخشى مقاربتها بقصائد يراها دون مستوى (الثمانينيات) الأنموذجيّ بالنسبة له(!) وليعذرني صديقي الكبير على إكثاري من علامات التعجب، فأنا متعجبٌ جداً والله، لأنني أرى تلك المرحلة الصاخبة من الممكن أن تكون صلبة ومستمرة لو أن أصحابها واصلوا - كما هم الآن - دون التباكي على هشاشة بدأت بفسح وانتهت بحجب(!) نعم والله، بئسَ الإنجازُ الجماعيُّ يبدأ بقرار وينتهي بقرار ثم يسمّى إبداعاً. فالإبداع - الشعريُّ تحديداً - هو إنجازٌ فرديٌّ ينبع من الذات وتجربة الحياة، ولا يقبل الشراكة المؤقتة، فالصعاليك مثلاً - كأول (شركة) عرفها الشعرُ - لم ينته أحدٌ منهم إلا بمقتله وليس بحجب أو إيقاف(!)، وما حدث في الثمانينيات عندنا حدث عند غيرنا في أزمنة سبقته بقليل ولكنّ أصحاب الإبداعات الخارقة واصلوا وتغرّبوا وتشرّدوا من أجل تلك المواصلة. أوَ لم يكن ذلك أجدى من تمجيد مرحلة مضت وتحقير ما تلاها من مراحل تفوّقت عليها برغم أنها تحمل وزرها ورهابها (أو فوبياها!) وتظل تحتفظ لها بكثير من الوفاء الذي لا تستحقه أصلاً - برأيي - لأنها لم تكن صلبة ولا متطورة بالقدر الذي يجعل من أفرادها رموزاً كما هم الآن!
عبد الله الزيد لا أقول من أنبل وأوفى الأصدقاء الذين عرفتهم في الوسط الثقافي المحلي، بل هو أنبلهم وأوفاهم على الإطلاق بالنسبة لي، ولن أنسى أبداً ركضه في المستشفيات من أجلي حين مررتُ بأزمة قلبية، وكأنني ابنه لا مجرد صديق أو زميل قد أصبح خصماً له إذا ما دعت الضرورات الثقافية(!) مثلاً.. يقول الزيد في ختام شهادته الطويلة:
(.. انزوت الثقافة الحقيقية والأدب الرفيع، واكتفي بأضابير الفنانين والمبدعين، وانزوى كذلك مبدعون كانوا ملء السمع والبصر، مثل عبد الكريم العودة وجار الله الحميد، وجملة شعراء الحداثة والمعاصرة، وتحديداً من جيل الثمانينيات، وتبعاً لذلك لم يوجد لدينا، ولم يخلق عهد جديد يستحق مصطلح «ما بعد الحداثة» فقد سيطرت الظلامية، وصرنا نعيش عهداً اسمه «فقدان الحداثة والمعاصرة» والنكوص باتجاه العادي والرتيب والعامي، وإذا تبقى لدى أحد شكٌّ في كل ذلك أو بعضه فليفتح أيَّ وسيلة إعلامية وليتابع ما يجري فيها، ولئلا أكلف عليه أقول له: ستجد التردّي في البرامج بكافة أنواعها، وستجد التسطيح والتفاهة بكل صورها، وستجد ما هو أدهى وأمر، وهو هذه اللغة التي لا طعم لها ولا لون ولا رائحة، وسوف تحظى بكثير كثير من الرعونة وقلة الفكر وانعدام الحياء. أتصور أنه ينبغي أن أتوقف الآن، فلا شك لديّ في أن في بعض التحولات والمراحل من الموت والانقراض! - عبد الله الزيد - الرياض - الاثنين 27 رمضان 1434هـ).
مهلاً أخي عبد الله مهلاً.. كيف الحال؟ لقد نسفتَ أجيالاً أتت بعد مرحلة الثمانينيات متصوراً أن الحداثة - كما تصوّر غيرك من صانعي تلك المرحلة - هي بنتُ الثمانينيات(!) يا إلهي.. لا بأس أن نكذب الكذبة ونصدقها بشرط عدم التجني على أحد - نأخذها كدعابة مثلا! - أمّا كل هذا التجني من أجل إثبات كذبة غيّرنا بها مسمّى (شِللية) وجعلناه (حداثة) وغيرنا واقعاً يستحق صفة (التشابه المنسوخ الهشّ) ملصقين به صفة (الإبداع الحرّ المتميّز)، وفي سبيل ذلك فليمت كل من جاء بمفرده حاملاً بين كتفيه ثقافة الكون بأزمنته المتغيرة ليبدع شعراً ونثراً - أصيلاً ومتطوّراً - بعد الثمانينيات؟!
أستطيع أن أقول أكثر، وأستطيع أن أسمّي عربياً: السياب ودنقل وأدونيس ودرويش والمقالح واصفاً إياهم بالمرجعيات الحقيقية للحداثة الشعرية العربية التي بدأت في الخمسينيات ومستمرة إلى الآن فصاعداً، أسمّيهم بأسمائهم، لا بجيل يجمعهم أو ساحة تحتضنهم أو قرار يطلقهم للفضاء وآخر يقيّدهم إلى انزواء(!) أرحّب بالمجايلة وأؤمن بها وأحبها حين تكون عن تقارب الأعمار والمجالات، وأرفضها وأمقتها وأكفر بها حين تمسخ الجميع على هيئة واحدة محددة الملامح والتجارب والصفات؛ لذا فلن أسمّي أحداً من جيلي (العمريّ) فكل مولود في آخر الستينيات هو من جيلي العمري وكل من بدأ الكتابة أدباً وشعراً في أول التسعينيات هو من جيلي الأدبيّ والشعري.. أمّا في التباهي الرمزيّ المتفوّق، فأستطيع أن أتباهى - محلياً - برمز شعريّ وأدبيّ وثقافيّ واحد فقط، هو الاستثناء غازي القصيبي (1939 - 2010) لأن مشروعه الإبداعيّ استمرّ يتوهّج مذ بدأ الكتابة حتى رحل عن الحياة، متخطياً كل الأجيال والأزمات.
وأستطيع أن أسمّي شعراء التسعينيات وما تلاها جيلاً فجيلاً، وأتباهى بنفسي وبهم فأقول: إن لكل منا مشروعه الخاص المتميز عن غيره، وإننا نملأ المشهد الثقافي بإنجازات حقيقية، غير مستعارة من الجوار، وغير (مطبوخة ومنكّهة) بأنفاس جماعية (شِللية) تمسك بالإعلام من مختلف جوانبه وتتشارك في صياغة الملامح ذاتها.. و.. أستطيع وأستطيع، متحدياً أن يوقف نتاجاتنا كتابٌ يعجّ بالتوقيعات أو شريط كاسيت يضجّ بالصيحات.. فهل سأكون انتصرتُ بذلك لجيلي - وممن؟ - أم هيأتُ نعش غيره - ولمن - ؟!
أقولها بعمق وصدق: الأجيال - إذا أخذنا العقد العشري من السنوات جيلاً - لا تموت إلا حين يقتلها أصحابها، بالتكالب عليها والتمركز فيها - كأنهم يموتون بانتهائها وهم لا يزالون أحياءً بعدها! - وإنني أربأ بالصديق الكبير الشاعر عبد الله الزيد أن يقتل جيله الشعريّ أو يموت بانتهائه من حيث يحاول تمجيده على حساب أجيال تلته؛ فالمشهد الثقافيّ في كل الأزمنة والأماكن والمراحل وحتى الموائل، كان ولا يزال وسيظل عامراً بكل المتناقضات، من إبداعات متفوّقة ينحني أمامها كلُّ مبدع معاصر إعجاباً، إلى سفاسف باهتة يتجاوز عنها كل متلق عابر ويعرف أنها كمالة مساحات لا أكثر..
خلاصة قولي، بصفتي أحد من أتوا بعد جيل الثمانينيات وقد آلمني قول صديقي الذي أعرف أنه لا يريد لي - ولا لغيري - الألم: إنني أقدِّر كل رموز ذلك الجيل (الثمانينيات) ولكنني أقدِّر رموز الأجيال التي سبقته والتي تلته أكثر، لأسباب كثيرة، ليس أولها استقلالية كل مبدع بمشروعه الخاص (وقد نجح بمبدأ الاستقلالية) ولا آخرها أنّ أحداً من تلك الأجيال لم ينكر قدر أحدٍ سبقه أو لحق به (بل على العكس يفاخر بمن أتى قبله مهما اختلف معه، ويدعم من أتى بعده غير مشترط عليه تمجيده أو التشبّه به)!
وأختم ببيتين من شعر عبد الله الزيد، الشاعر الذي ولد عام 1952 وسيظل حاضراً في الأجيال كلها شعراً ونثراً طيلة عمره المديد بإذن الله، لا يحدده جيلٌ ولا تحصره مرحلةٌ ولا يقيده مكان.. والبيتان من قصيدة له مكتوبة في هذه الألفية الثالثة التي نعيشها ونبدع فيها كما عاش غيرنا في غيرها وأبدع فيها متجاوزاً زمانه ومكانه:
(القيلُ مسرجةٌ في فعلهِ لُغتي
والفعلُ يندبُ في تكوينه قيلا
فلا الزمانُ إذا هادنته زمني
ولا المكانُ يداني قامتي طولا)