كنت سأمضي في عزوفي اللا إرادي عن الكتابة لما يزيد اليوم على عدة أسابيع، بعد أن أصبح الصمت أكرم من الكلام، وعتمة البصيرة أعشى من البصر في دخان الحرائق، وطاقة الأمل أضيق من لحود التحلل التي ننحدر نحوها بلا هوادة, لولا أن إرادة الحياة تغلب حالة الموات.
فلقد جاءت الأحداث الأخيرة على أرض فلسطين تضيء بطولة أهل غزة اليومية في دفع ضريبة الانكسار العربي المزمن من دماء الأطفال والمدنيين نساء ورجالا, وتحمل رد اعتبار لنبض المقاومة في صدري. ولا غرو فتلك البطولات العظيمة تشكل رد اعتبار لقيمة المقاومة التي كادت أن تصبح تهمة تُدفع، وشرفاً يُخشى بل يدفع في دوامة العماء الذي تعمه فيها أمة كاملة بقضها وقضيضها؛ خوفا من شبهة الإرهاب أو احتماء بهذا الخوف.
على أنه ربما لن يقدَّر رد الاعتبار لقيمة المقاومة الذي تمثله بطولة أهل غزة حق قدره في هذه اللحظة التاريخية بالذات من تخبط العالم العربي، بين ترميم خراب العروش وبين الانزلاق إلى ما تحت خط التخلف، إلا من يعرف الفارق بين مرارة الذل وحلاوة العزة, بين علقم اليأس وشهد الأمل، وبين حلم الحرية وكوابيس الاستعباد. وهو ذلك الفارق النوعي الذي ولدته رياح الربيع العربي قبل استشراس أكثر من نيرون على روما, بما يجعل مقاومة غزة اليوم تبدو للأرواح العطشى كقطرة ندى, نشعر على تناهيها في الصغر أن بإمكاننا بها تحدي الحريق ولو على مستوى معنوي.
لقد عاش العالم العربي بأسره زمنا كانت القضية الفلسطينية فيه قضية ضمير ورمزا لإرادة التحرر. كما عاش العالم العربي زمنا كانت فيه انتفاضات الأرض المحتلة منذ العام 1936م مرورا بتواريخها العديدة وذرواتها القريبة بالثمانينات والتسعينات الميلادية الانتفاضة الأولى عام 87 والانتفاضة الثانية قبل أوسلو وانتفاضة الأقصى بعدها عام 2000 إلى العام 2005 مصدرا لكرامة المواطن العربي التي يفتقدها في بلاده, ومصدرا للوحدة التي فشلت مشروعات الأنظمة العربية في تحقيقها، ومصدرا لقيمة المقاومة الشعبية في وجه وحشية العدو وزينة الترسانة العسكرية العربية، وفي وجه استسلام النظام العربي لقوى الهيمنة التي تدعم همجية الاحتلال. غير أنه بعد سلسلة من خيبات التخلف والتخلي والأخطاء السياسية الخطيرة على المستوى الفلسطيني والعربي معا في التعامل مع ما كان يعرف بـ «الصراع العربي مع الاستعمار الاستيطاني الصهيوني»، جاء زمن «التسوية والتنازلات» التي لم تعمل فقط على تجريد الشعب الفلسطيني من أهم مقومات وجوده وهو فعل المقاومة، بل عملت أيضاً على تجريد الوجدان العربي حتى من التزامه الأخلاقي تجاه عدالة القضية الفلسطينية. فعلى مستوى الموقف في الشارع العربي تراجعت القضية الفلسطينية إلى مستويات اللامبالاة وما دون اللامبالاة، مع تجهيل الأجيال الجديدة بمعناها الإنساني والوطني والرمزي. أما على مستوى موقف المثقف العربي فتحولت القضية إلى موقف يراوح بين التحيزات الأيديولوجية لتوجهات الفصائل والسلطة، وبين موقف كثيره يعبِّر ببرجماتية فجة عن تطابق مع موقف النظام الدولي والعربي في إقرار شرعية كيان الدولة الصهيونية مقابل إقامة دولة فلسطينية بالشروط الإسرائيلية الظالمة جغرافيا وسياسيا وتاريخيا, وأقل القليل منه يعبِّر - وإن بصمت - عن تمسك بجمرة الضمير في أساسيات القضية كقضية شعب مقتلع وأرض مغتصبة.
فبعد أجيال فتحت عيونها على معركة الكرامة الفلسطينية وشعارات ثورة حتى النصر وعلى شعر المقاومة الفلسطينية لفدوى طوقان وأحمد دحبور وسميح القاسم، وقصيدة سجل أنا عربي لمحمود درويش, وأسطورة أم سعد لغسان كنفاني التي لا تقل عن أسطورة الأم لمكسيم جوركي, وبعد أغاني فيروز لزهرة المدائن.. يا قدس.. والغضب الساطع آت، وأغاني مرسيل خليفة «أناديكم أشد على أياديكم.. وأقول أفديكم», جاءت أجيال لم تفتح عيونها إلا على مناهج وإعلام يسمّي فلسطين باسم دولة العدو المحتل: «إسرائيل», ويخلط بين فعل المقاومة المشروع وبين إرهاب الدولة العنصرية العسكرية الاستعمارية. فهناك أجيال شبت وهي لا تعرف شيئا يسمى عدالة القضية الفلسطينية، ناهيك أن تعرف شيئا عن عروبتها أو رمزها العروبي والتحرري. فهي فتحت عيونها ولم تر إلا حكومات تسير حثيثا سرا وعلنا في مواكب التسويات الاستسلامية، مكبة على وجهها ماضية في التطبيع بروح القطيع.
فهل من لا يزال يجرؤ على تذكر انتفاضة أطفال الحجارة. هل من يستطيع دون أن يتلفت خلفه وعن جانبيه ذكر اسم ليلى خالد أو فاطمة برناوي ووديع حداد, هل من يعرف مذبحة دير ياسين التي صفيت فيها قرية كاملة في ليلة واحدة، هل من سمع بمذبحة كفر قاسم التي قتل فيها كنوع من التسلية المسائية لجيش الاحتلال الصهيوني جميع ركاب حافلة من العمال العائدين إلى بيوتهم عند الغروب. هل تعرف أجيال اليوم الطفل الشهيد محمد الدرة، وهل لا يزال هناك من الشعراء اليوم من يستطيع أن يكتب قصيدة في أي من شهيدات غزة الشابات كما كتب غازي القصيبي؟!
لماذا وإلى متى تستمر تلك التنازلات الباهظة التي تحول قضية فلسطين من رمز تراجيديا إنسانية عظيمة لشعب عربي عريض يريد حياة حرة كريمة عادلة إلى مشهد جانبي في ملهاة التهاوي العربي المتسارع؟!.
لقد ردت وقفة غزة المفعمة بالتضحيات والعزة الاعتبار لفعل المقاومة بما فيها مقاومة تخاذلنا الذاتي والعام في التخلي عن القضية الفلسطينية.
وهذه ليست إلا غيضاً من فيض أسئلة صعبة في القضية الفلسطينية كقضية وجودية، وكقضية ضمير تفجرها اليوم مقاومة غزة الأبية في هذا الرمضان الساخن، كما تفجرها مقاومة الأطفال في أحضان وبطون أمهاتهم لذلك الرعب العسكري البربري اليومي الذي تُطْبِق به دولة العدو الإسرائيلي على سماء وأرض غزة لتحولها إلى خلية جحيم انفرادية لشعب كامل. فهل نستطيع تجنب مثل هذه الأسئلة البديهية ومساءلة الذات الوطنية والحكومات في تخلينا عن أبسط الأساسيات تجاه هذه القضية العادلة، إن كان منا من لا يزال في وجهه قطرة من ماء الحياء، أو في عمره خيط أمل في العلاقة بالمستقبل.