أولا, أسأل الله أن يجلل والدة الأستاذة ناهد ووالدها وأهلها ووطنها بجلال الصبر والأجر على فقد تلك الصبية السامقة التي ذهبت في ريعان العمر شهيدة على دروب طلب العلم التي طالما عبدها الشرفاء مثلها بأثمان باهظة. فإنا لله وإنا إليه راجعون على خسارتنا الوطنية الفادحة في بنت الجوف وقد قدمت حياتها كأعلى وأغلى ثمن للمعرفة في وجه الجهل أي كانت أقنعته, جريمة جنائية تعصبية أو جريمة جنائية بواح.
ثانيا, أقف في هذا الموقع من صحيفة الجزيرة وقفة ترحم وإجلال للفقيدة على تاريخها المفعم بالشغف المعرفي, فناهد في مسيرتها العلمية من مدارس الرئاسة العامة لتلعيم البنات إلى حصولها على درجة الماجستير من جامعة طيبة في أحد تخصصات العلوم الطبيعية الهامة,كما يشهد لها المقربين منها, كانت شعلة نشاط وخلية عمل ونبراس إخلاص لتفاني طلاب العلم وزهد العلماء. وقد تسنى لي الاطلاع عبر مقالة علمية على نقطة من بحر شغفها المعرفي والوطني فكانت تلك المقالة على ما يبدو اشتقاقا من أطروحتها العلمية لرسالة الماجستير التي عملت فيها على ممازجة العلم النظري لتخصصها بمجال الأحياء بالواقع الميداني لمسقط رأسها ومنبتها الوطني بمنطقة الجوف في حرص واضح على استثمار معرفتها العلمية في التطوير البيئي لوطنها. والمفارقة الموجعة أن تلك المقالة جاءت ويااااللقدر تحمل عنوانا رمزيا موازيا لمآلها الفاجع, حيث كانت بعنوان: «بحيرة الجندل الميتة». وفي هذه المقالة كما لفت نظري ابن الجوف البار الأستاذ إبراهيم الحميد تكتب ناهد عن تلك البحيرة النائمة كامتداد لظل الرجاجيل ونسيج السدو وبساتين النخل لبلح الحلوة وحقول الزيتون وصدى موكب ملكات الأنباط باعتبارها معلما من معالم هذه المنطقة الولود. وفيها تتساءل عن أسباب موت بحيرة الجندل أو تحول البحيرة إلى بقعة من الماء الراكد والقار مع تمييز لماح بين الأسباب البيئية الطبيعية وبين الأسباب السياسية الاجتماعية لموت بحيرة الجندل. جعل الله جهدها البحثي لإحياء بحيرة الجندل في ميزان حسناتها وقدر الله طلاب العلم بمنطقة الجوف وأصحاب القرار على مواصلة البحث والعمل بما يرد الاعتبار للقيمة التاريخية والسياحية والإنسانية لهذا الجزء الغالي من الوطن.
ثالثا, لعائلة الفقيدة ولأهالي منطقة الجوف ولكل بنات وأبناء الوطن من شماله إلى جنوبه ومن غربه إلى شرقه تحية على وقفة التآزر والتعاضد التي وقفوها مع شهيدة العلم. والحقيقة أن هذه الوقفة تعكس نقلة نوعية في وعي المجتمع السعودي تجاه طلب العلم وتجاه العلاقة بالآخر وتجاه النساء. لقد كنت ممتعضة من بعض التعليقات السلبية على مواقع التواصل الاجتماعي وخاصة تويتر التي عبرت عن نظرة قاصرة للنساء ونظرة انعزالية بالآخر ونظرة جاهلة بفريضة طلب العلم ولو في الصين إلى أن جرى لفت نظري من قبل أحد الشباب الذي برهن لي إحصائيا بأن تلك التعليقات ليست إلا نقطة في بحر التعليقات الإيجابية التي عبرت عن تلاحم وطني والتفاف حول مفهوم حضاري متطور لمعنى الاغتراب للعلم والشهادة في سبيله ولموقع المرأة العضوي في النهوض المعرفي. ولمزيد من إلقاء الضوء لفحص ما يمكن اعتباره تعبيرا عن نقلة نوعية في توليد وعي اجتماعي متقدم للمجتمع بفئاته ومناطقه المختلفة تجاه هذه المنظومة من المفاهيم كما قدمناها, يمكن العودة بالتقويم عدة سنوات لمرحلة الصحوة المتزمتة لتلك الفترة التي قادت إلى الانغلاق المعرفي كما تمثل في قفل باب الدراسة بالخارج قبل أن يفتحه برنامج خادم الحرمين الشريفين للابتعاث مطلع الألفية الميلادية الثالثة, وقبل أن يتحول أعداء الأمس لمثل هذا البرنامج العلمي العملاق أحد أوائل المستفيدين منه. فلا أظن أننا كنا سنحظى بمثل هذه اللحمة الوطنية بما يليق بوداع شهيدة العلم قبل أن تُخلق تلك الموجة من الحراك الاجتماعي الذي أتاحته المشاركة للشباب إناثا وذكورا من مختلف مواقع الوطن من الأطراف والمركز معا في ذلك الخضم المعرفي الواسع عبر بوابة وزارة التعليم العالي والجامعات بما حققه من وفاق على الأساسيات التي طالما جرى الاختلاف إن لم يكن التناحر عليها قبل هذه النقلة في الإجماع على قيمة العلم الإنسانية للنساء والرجال معا للرقي بالأنفس والأوطان.
رابعا, إذا كانت الابنة ناهد الزيد تغمد الله شبابها برحمته هي شهيدة العلم بجدارة فإنها للأسف ضحية التعصب العنصري العرقي والديني المتبادل بين المتطرفين في المجتمعات المعاصرة, وخاصة في العلاقة بين الغرب والمجتمع الإسلامي والعربي كما أنها ضحية ضغائن التاريخ والحاضر السياسي في علاقة قوى الاستعمار والهيمنة بالمجتمعات النامية ومنها المجتمع العربي والعربي السعودي. إلا أنه بالرغم من هذا الواقع العالمي المعقد لابد للمملكة من التفاوض في رفع الحماية الأمنية لرعياها وخاصة طلاب العلم وفي المواقع الجامعية.
خامسا وأخيرا, لقد قام عدد من شباب الوطن بالتفكير بعدد من المبادرات التي تحفظ الذكرى العلمية لفقيدة الوطن وشهيدة العلم الغالية ناهد الزيد ومنها تأسيس كرسي في علم الأحياء باسمها بجامعة الجوف ولا غرو أن ناهد وأسرتها ونساء الوطن وطلاب العلم ووطننا لهم كل الحق في الوفاء بهذا الاستحقاق بمشيئة الرحمن.