(1)
يعود إلينا شهر رمضان المبارك أو نحن نعود إليه، بروحانياته و(موائد) الخير والبر فيه.. صياماً وصلاةً وقياماً وصدقةً ودعاءً من القلب، بأن يغفر الله لموتانا وموتى المسلمين، الذين لم يدركوه وأن يحفظ من بقي لنا أهلاً ومحبين، وأن يعيننا جميعاً على أداء واجباته وسننه ونوافله، وتجنّب كل ما قد يحول بيننا وبين ما نرجوه في هذا الشهر الكريم، صياماً مبروراً، وغفرانا مبيناً، ونجاةً من النار.
* * *
(2)
في هذا الشهر الكريم، تتوارد إلى الذهن ذكريات، يعود بعضها إلى العهد السحيق من العمر، عهد الطفولة البريئة والنفس المتفائلة الطامعة في الخير، وكانت هذه الفترة بالنسبة لي وأنا في سن السابعة (فردوساً) صغيراً بين أحضان قريتي الزراعية الفاتنة المطلة على وادي (البصْرة) الأنيق في قرية (مشيّع) حيث كنت أمضي فترةً مضيئة بالبراءة في كنف جدي (لأمي) -رحمهما الله وأحسن مأواهما-، كان همي اليومي خلال أيامه المقدسة هو أن أحافظ على صيامي حتى تأوي الشمس إلى مخدع الغروب، ثم أتناول نماذج من فضل الله، تمراً ولبناً، وما تيسّر من أطعمة أخرى متاحة فإذا كان اليوم التالي استأنفت مسيرة الصيام بطموح جديد يتحقق بغروب الشمس، والتئام الشمل حول مائدة الإفطار المتواضع.
* * *
(3)
وذات يوم قائظ من ذات رمضان، عدت إلى المنزل الريفي متعباً، وقد أخذ مني الجهد (الزراعي) مأخذه، وكان العطش يشعل نيران الظمأ في أحشائي، وما إن دلفت إلى مقدمة البيت (الباسوط) حتى أبصرت (الزير) في صدر المكان وكان مشهده (يغري) في تلك اللحظة الحرجة من الظهيرة بتناول شيء من مائه البارد، عندئذ سولت لي نفسي أمراً، لم أعره بادئ الأمر فكراً ولا تأملاً، وهو أن أخرس شياطين العطش في أحشائي، بجرعة أو جرعات من الماء، ثم التفت يمنةً ويسْرةً، خوفاً أن يراني أحد من أهل البيت، فيفسد عليّ ما كانت تسول به نفسي لي، ولما شعرت بشيء من (الأمن) اتجهت بحماس صوب الزير.. وأفرغت في جوفي مقداراً من الماء أعادني إلى الوعي.. فانصرفت متسللاً صوب (مخدعي) المتواضع واستسلمت للنوم.. حتى جاء من يوقظني.. استعداداً لتناول الإفطار، وجلست إلى مائدة الإفطار بجوار جدي الشيخ، يتقاسمني شعور من فرحة الإفطار وتأنيب الضمير مما فعلت في ظهيرة ذلك اليوم، بعيداً عن الأسماع والأبصار، ودعوت الله بصوت خافت أن يتوب عليّ، مدركاً أنني كنت في سن حرج (السابعة) لا يمنحني القدرة على الجمْع بين (كدّ) العمل في بستان جدي -رحمه الله-، وما يرتبه الصيام من جوع وعطش وأرق مفاصل.
* * *
وقد ظلّ هذا (الموقف) سراً من الأسرار حتى فاتحت به سيدتي الوالدة ذات رمضان من ذات عام، بعد عودتي من أمريكا مبتعثاً، فضحكت رحمها الله حتى بدت نواجذها وقالت: لم يكن مطلوباً منك يا حبيبي الصيام في تلك الفترة العمرية، خاصة وأنك تشكو من بقايا مرض عنيد ألمّ بك قبل بضع سنين.. فقلت يا أماه: أنا لست (سفيهاً) أي (طفلاً) حتى أحاكي السفهان فيما يفعلون وقد تعودت أن أعيش بين الكبار رجالاً ونساءً، فأقتدي بهم فعلاً وسلوكاً.
* * *
(4)
سئلت مرة: ما أكثر ما يزعجك في رمضان وما يشدك إليه.. فقلت: يزعجني (الخلط) بين روحانية الشهر الكريم و(ماديات البطن) بقدر ما يشدني فيه ازدياد وتيرة صلة الرحم وترميم ما وهن منه في نسيجنا الاجتماعي.