في الجزء الأول من المقالة كان الحديث عن كون الهياط ثقافة سيطرت على المجتمع المحلي في الفترة التي كانت فيها الأيديولوجيا حاكمة، خلال حقبة الثمانينات الميلادية التي كان الشحن الأيديولوجي على أشده، وكانت العقلانية غائبة عن تفكير الناس والحكم على الأشياء وإصدار القرارات. لم يكن الناس في ذلك الوقت قادرين على الفصل بين الواقع والمنطق الافتراضي كما تصوره الأيديولوجيا؛ فكانت الكارثة أن تحكّمت بعض الرؤى غير الواقعية في مفاصل القرار على كل المستويات، ولم يَعُد أحد يميز بين الأمور الدنيوية بوصفها نظام حياة، وبين أمور الدين بوصفها معتقداً يرتبط بالعلاقات الروحانية وببعض النصوص ذات الأبعاد الميتافيزيقية. أصبحت أمور الحياة تقاس حسب رؤية رجل الدين والواعظ الذي له ارتباطات زمنية بالواقع؛ لكن في الوقت نفسه تحركه دوافع تنظيمية متعلقة بالخارج بالدرجة الأولى. في ظل هذه المتغيرات نشأت أزمة المنطقة الأيديولوجية، والتي يعرف التاريخ مؤثراتها في المنطقة الإسلامية، وفي العالم أجمع، بعد الأحداث التي جرت، وأعقبتها متغيرات عالمية، كان لها الأثر الكبير في تاريخ العالم كما نشهده الآن.
لكن ما الذي جرى بعد حقبة التسعينات، وهجوم القاعدة على أمريكا؟ هذا معروف للجميع؛ ما نريد التطرق إليه هو البعد الثقافي الذي تفاعل في المنطقة الإسلامية، وفي منطقتنا العربية على وجه الخصوص. فقد تفاعل العقل العربي المحبط من الانكسارات، والذي تلاحقت عليه الهزائم المتوالية مع تلك المعطيات الجديدة، ليجد في الفرص الجديدة التي أتاحها له التنافس الأمريكي السوفياتي في أواسط آسيا المجال الحيوي لاستعادة المبادرة في فرض الذات من جديد، والادعاء بأن الإسلام الحركي قادر على بعث الأمة من جديد.
فما الذي حدث خلال هذه الحقبة من تطورات، جعلت الأمور تتجه إلى هذا المنحى، وتكون هي الانطلاقة لانحدار اجتماعي وثقافي جديد لمنطقة عانت من ويلات متكررة، ومن نكسات سياسية وعسكرية متوالية؟ في الواقع أن هذه الثقافة هي المولدة لكثير من الانكسارات على مر التاريخ؛ بدءاً من تحريم التقنية والتطور العلمي المرتبط بتقدم الغرب المنافس التقليدي للشرق الإسلامي، ووصولاً إلى تحريم أشكال التحرر السياسي، ومن أهمها النظم الديمقراطية التي انتشرت في أغلب بقاع العالم.
ألم يتعلم أولئك الناس مما حصل لهم في الماضي؟ حيث كان للأيديولوجيا الكلمة الأولى في الحكم على الأوليات في القرار وفي ترتيب أمور الحياة الدينية والاجتماعية. لا يشك أحد من المتابعين لتلك الحقبة في أنّ عدداً من العوامل تلك كانت خارجية؛ لكن العوامل الداخلية كانت قوية إلى الدرجة التي جعلت النجاح الشعبي، وإقبال الشباب كبيراً على ذلك في فترة قصيرة جداً؛ مما أنتج المراحل اللاحقة من تواصل ما سمي الجهاد الإسلامي، والأعمال اللاحقة التي شكّلت فترة فاصلة من التاريخ البشري الحديث.
وفي خضم تلك التطورات كانت أهم المراحل ما يتعلق بتوظيف الدين في التجنيد العسكري والتوظيف الاجتماعي، الذي مكن المخابرات الأمريكية من الانتصار في معركتها مع الاتحاد السوفياتي وجيشه الكبير في أفغانستان؛ ولاحقاً على الكتلة الاشتراكية بمجملها مما وحد العالم في وحدة واحدة.
اكتشف الناس محلياً وعربياً وعالمياً اللعبة، التي أدارتها الاستخبارات الأمريكية بامتياز، ولعب فيها الإسلاميون دور البيادق، وقادتهم ومنظّروهم دور العملاء؛ لكن ما لم أكن أتوقعه أن تنطلي اللعبة على الناس مرة أخرى. فهاهم الناس أنفسهم يصدقون أصحاب الغياهب من جديد، بأنّ الدخول في تلك الحروب الخاسرة جهاد في سبيل الله، وأن نصرة تلك الفئة، أو الحصول على الشهادة في أي قتال هو الطريق الأمثل إلى دخول الجنة. آه منكم بشر!