هل يوصف الازدواج الصارخ بين فهم الموضوع الواحد بأشكال متعددة بين كون المرء فيه منتجاً أو متلقياً، بأنه حالة من حالات المرض وصور النفاق القيمي في مجتمعاتنا العربية؟ لا أظن ذلك، ومستندي في ذلك تسكع الحالات المتمادية في هذه الظاهرة أمام فئات المجتمع المختلفة دون أن توصم بأي نقيصة. بل إن بعضها يحظى باحترام، وتتعاطف معه أغلب تلك الفئات؛ سأسرد بعضها من أجل التأمل في صبر الله على الخلق.
من أمثلة تلك الحالات: كون كثير من الناس في تلك البيئة يريدون دائماً حقوقهم، ويشددون على أهمية حصولهم عليها وأن ذلك ضرورة ملحة. وفي المقابل يتناسون أن عليهم واجبات يفترض أن يؤدوها باجتهاد مماثل لاجتهادهم في طلب حقوقهم؛ لكنهم في هذه الحال، يلجأون إلى سياسة «سددوا وقاربوا». ففي إحدى المناسبات التي قادتني إلى فتح حوار مع بائع شاورما، فاجأني حماسه الشديد للمطالبة الملحة بزيادة راتبه، التي لم تحصل منذ فترة طويلة، وبالطبع فتح هذه المطالبة ليست في محلها؛ وكذلك كان يسعى للحصول – كما قال – على ميزات أخرى تتناسب مع ما يحققه من أرباح لصاحب المحل، ولكن دون جدوى. وعندما ذكرته بما يفترض عليه فعله في عمله، من ضرورة النظافة والإخلاص مع الزبائن فيما يؤديه لهم من خدمات، وأن ذلك يفترض أن يكون مقدماً على تلك المطالبات المالية؛ بدأ يتململ من الحديث، ويشير إلى مبالغات بعض الناس بعمليات التحوط والخوف من الأمراض وحالات الفوبيا التي تسيطر على الناس. واختتم ذلك التهرب، بأنه لن يصيب الناس إلا ما كتب الله لهم. فقلت له بصورة آلية وغير معتادة مني في التعامل مع العاملين: طيب، ولماذا لا ترضى بالراتب الذي كتبه الله لك؟ فانزوى في زاوية الشواية متمتماً: الله لا يكتب إلا الخير! قلت: ومن ضمن الخير أن تستخدم القفازات في مسك الخبز الذي تضع فيه اللحم، كما يتوقع منك زبائنك. فبدأ في تعويذة العاجزين: لا تكن موسوساً، واتكل على الله، ينجيك ويصلح أحوالك. فقلت بلؤم لم أكن أرغب فيه: والنصيحة تصلح لك في أمورك المالية .. أليس كذلك؟
أما الحالة الثانية، فتتعلق بأناس يتقلبون بين محاولات إضاعة الوقت، وإظهار الملل من متابعة معاملات الناس، لكنهم في المقابل يتبرمون بمماطلات إداراتهم ورؤسائهم المباشرين في قضية إعطائهم العلاوات أو الزيادة في الحوافز. وفي بعض الأوقات يتفنن أصحاب ذلك الفصام في التمويه على أصحاب الحاجات الذين تكون معاملاتهم بين أيديهم، لكي ينتهي وقت الدوام، دون أن يصلوا إلى الشخص المسؤول عنها، من أجل أن يتخلصوا منها إلى اليوم التالي أو الأسبوع الذي يليه. وفي كل تلك المماحكات لا يرف لهم جفن، ولا يتحرك عندهم ضمير؛ ومع ذلك لديهم من البجاحة ما يجعلهم يطالبون بزيادة المكافآت على كسلهم وعدم إخلاصهم وقلة إنتاجيتهم.
وفي الحالة الثالثة يتضح غياب المنطق السليم، وحساب الأشياء على أسس واقعية. ففي خبر نشرته صحيفة عكاظ (وهو ليس فريداً من نوعه) أن شخصاً له 35 ولداً بين بنين وبنات من زوجتين، ويعيش على الضمان الاجتماعي؛ يشتكي من عدم مقدرته على توفير لقمة العيش ومصروفات الدراسة لهذه القبيلة، فضلاً عن ديون بعضها صدر فيه حكم شرعي من المحكمة بسدادها خلال أيام أو إيداعي السجن. كما أن وضعه النفسي – كما يدعي – سيء؛ فهو بين مراجعة للمستشفيات، ومحاولات الحصول على الأدوية، وعلاج العظام والمفاصل التي يعاني منها. فهل الصدف هي التي أوقعت مثل هذا الشخص في تلك المآسي التي يقود بعضها إلى بعض؟