لو طُلب منك تركيب أجزاء سيارة الآن، هل ستقدر؟
هناك طريقتان لصناعة سيارة: إما بدراسة ذلك منهجياً، أو بتفكيك محرك سيارة وإعادة تركيبها كما فعل الياباني تاكيو اوساهيرا عندما تمكن من تصنيع أول محرك صنع في اليابان عن طريق تفكيك محرك إيطالي وإعادة تركيبه من جديد. إذاً هناك ما لا يمكن إدراكه بالبديهة.
فالبداهة معرفة غنية عن الاستدلال.
لأنها تستند لمسلمات حتى الأطفال والأميين لا يختلفون عليها، كبديهية أن أحمر لا يكون أبيض في الوقت ذاته.
السؤال الآن: هل يمكن تضليل البديهة؟ هناك نوعان من العقول بحسب تصنيف بعض الفلاسفة: عقل تبعي وعقل نقدي.
العقل التبعي هو عقل تكراري، في منهجه فراغٌ تنعدم فيه تبادل المعرفة، لأن المعارف تهبط إليه من مورد علوي، وما عليه إلا اجترارها، دونما أدنى تساؤل أو احتجاج.
على نقيض العقل النقدي الذي تكون لديه الحركة المعرفية في ذهاب وإياب، أخذ ورد.
لأنه استكشافي وليس استدلالياً كالعقل التبعي.
يفوتُ العقل التبعي أن يستفسر أو يكتشف التناقضات أو يرفض ما لا يوائم البديهة، بالنسبة له ثمة طريق واحدة للحقيقة، وهي أن تصدر ممن يمثل له الأسوة أو المثال.
ليست هناك مرجعية منطقية للصواب والباطل في عقله، حتى البديهيات يمكن لها أن تُفند وتعارض في حال تناقضت مع الخطاب الهابط من أعلى.
لأنه يفتقر للتفكير والتدبر، الأمر الذي لم تعتد أدواته العقلية عليها، إنما اعتادت فقط التكرار.
والتكرار ليس فقط في الفكرة بل في خطوات الاستدلال التي تنتهي بالحقيقة المراد طرحها، حتى وإن كان الاستدلال ذاته هزيلاً ومتضارباً.
لأن الثقة التامة بالمتبوع أشد نفوذاً من مجرد فكرة غير محكمة! صناع التبعيات أصبحوا أكثر دهاء، لأنهم تبينوا قوة الوعي التي قد تُخسرهم قطيع التكرار آنف الذكر.
لذاك أصبحت لدينا أفكار جاهزة - على وزن وجبات جاهزة - ولدينا أيضاً ما يسمونه شبهات، وهي كل فكرة منطقية تحاول اختراق خرافاتهم وتدليسهم، وقاموا بالرد عليها تباعاً.
وما على التابع الوفي إلا أن يفتح علبتين: علبة الفكرة الجاهزة، وعلبة الاستدلال الجاهز!.
في فضاءات الحوار الفكري على مدى عشرات السنين، وربما اتضح ذلك أكثر مع قدوم الإنترنت ودخول الناس أفواجاً في دوامة النقاشات الفكرية عبر البالتوك ومنتديات الحوار.
تلك الساحات التي مرَّن فيها كل أطياف المجتمع ذوي التجربة الحوارية عضلاتهم في طرح الفكرة ومن ثم نقاشها وتفنيدها.
والمفاجأة الكبرى أنه تلك الأطروحات واستدلالاتها برمتها مجرد تكرار مرجعه مورد واحد حمل على عاتقه رد الشبهات.
اليوم في توتير نواجه طوفاناً من العقول التبعية تمارس هواية التكرار المملة لتلك الحجج التي اهترأت لشد ما سُحلت من فضاء إلى فضاء، ومن برنامج حواري لشبكة اجتماعية.
حتى صرنا نتنبأ بالرد قبل أن يأتي.
ونتوقع الفخ قبل أن ينصب.
شباك مصنوعة من أوهى الخيوط، أنا على يقين تام أنه سيأتي اليوم التي تنمزق وتشرق من ورائها شمس العقل النقدي.
المقال القادم نماذج مطروحة كأمثلة للسيناريو المكرور للفكرة واستدلالها.