هناك نمو متسارع في عدد سكان المدن الرئيسة في المملكة خاصة الرياض وجدة وحاضرة الدمام. هذا النمو ناتج عن قيام تنمية غير متوازنة على مستوى المملكة، نتج عنه تركز المشروعات والخدمات وفرص العمل في هذه المدن، ما جعلها مناطق جذب سكاني، بحيث إن ما يزيد على 70 في المئة من سكان المملكة يعيشون فيها حاليًّا.
خطوة مهمة اتخذتها الدَّولة نحو تحقيق توازن التنمية وتحسين الأوضاع المعيشية في المناطق الأقل حظًا تمثلت في إنشاء عدد كبير من الجامعات في مختلف مناطق المملكة، بحيث وصل عدد الجامعات الحكوميَّة الآن إلى 28 جامعة بعد أن كان هذا العدد لا يتجاوز 8 جامعات قبل عدَّة سنوات.
والأمر المؤكّد أن من بين أبرز الأهداف التي بررت هذا التوسع في التَّعليم الجامعي هو الحدّ من انتقال الطلاب والطالبات إلى المدن الرئيسة بغرض مواصلة تعليمهم الجامعي، وبالتالي أن تسهم هذه الجامعات في الحدّ من الهجرة الداخليَّة.
الإشكالية التي لا يبدو أنها لقيت العناية الكافية هي أن فتح الجامعات في المناطق النائية يسهم في الواقع في زيادة الهجرة الداخليَّة ولا يحد منها. فبالرغم من أن وجودها في تلك المناطق يحد من الحاجة للهجرة بهدف مواصلة الدراسة الجامعية إلا أنه يزيد من الهجرة بهدف البحث عن عمل يتناسب مع توقعات وتأهيل خريجي هذه الجامعات في ظلِّ ضيق فرص العمل المتاحة لهم في مناطقهم وبمعدلات تفوق كثيرًا ما ترتب على قيام هذه الجامعات من حد من دافع الهجرة بهدف مواصلة التَّعليم.
فحامل الثانوية مثلاً قد يجد في هذه المناطق فرص عمل يقنع بها وقد يتردَّد في الهجرة للمدن الرئيسة بسبب تدنّي مستوى توقعاته للأجر الذي سيحصل عليه فيها خاصة في ظلِّ ارتفاع تكلفة المعيشة في هذه المدن، أما من يحمل شهادة جامعية في الهندسة أو إدارة الأعمال بما متاح له في منطقته وبالتالي لن يتردَّد في الهجرة للمدن الرئيسة بحثًا عن فرص عمل مناسبة.
بالتالي فإنشاء الجامعات وبالرغم من أنّه يحد من الهجرة الداخليَّة على المدى القصير، إلا أنه في النهاية يتسبب في معدلات هجرة أعلى، وبالتالي تفريغ سكاني أشد للمناطق الأقل نموًا.
تفادى هذا التفاقم المؤكّد في معدلات الهجرة الداخليَّة يستدعي أن يكون هناك تنفيذ دقيق وسريع للإستراتيجية العمرانية الوطنيَّة التي أقرّت قبل أكثر من عقد من الزمن ولم يَرَ تنفيذها النور حتَّى الآن التي كانت تستهدف تحقيق تنمية متوازنة على مستوى المملكة. فمعظم الأنشطة الاقتصاديَّة ما زالت مركزة في حواضر المدن الرئيسة، ولم يوضع تنظيم حازم يحد من تكدس الأنشطة الحكوميَّة والخاصَّة في هذه الحواضر، ولم يقيد التمويل الحكومي للمشروعات التي تقام في المدن الرئيسة وتوضع الحوافز المشجِّعة على إقامة المشروعات في المناطق الأقل نموًا، ولم يكن هناك أيّ إلزام للشركات التي توجد معظم مشروعاتها خارج المدن الرئيسة بأن تكون مقراتها الرئيسة في تلك المناطق، وكما ذكرت في مقال سابق فإنَّ لا مبرر مُطْلقًا لأن تكون كافة أعمال شركة سابك على سبيل المثال، في مدينتي الجبيل وينبع بينما مقرها الرئيس وإدارتها في الرياض، أو أن ينشأ مصنع أدوية في القصيم بينما إدارة ومقر الشركة في الرياض.