النقاش الذي جرى مؤخراً في مجلس الشورى حول رفع سن التقاعد من 60 عاماً إلى 62 يظهر عدم استيعاب للإشكالية الحقيقية التي تواجه نظامي التقاعد والتأمينات في المملكة.
فهذه الإشكالية تأتي من التقاعد المبكر وليس من السن النظامية للتقاعد، بحيث إنه حتى لو رُفع سن التقاعد إلى 62 عاماً فلن يكون له تأثير ذو أهمية على الوضع المالي لنظامي التقاعد طالما أن باستطاعة الموظف الحصول على تقاعد مبكر باستكماله 20 عاماً من الخدمة تحت نظام التقاعد أو 25 عاماً تحت نظام التأمينات الاجتماعية.
وقد كانت مشكلة نظام التقاعد بسبب التقاعد المبكر الأكثر وضوحاً بسبب تقاعد الكثيرين من العاملين في القطاع الحكومي رغبة للانتقال للعمل في القطاع الخاص، إلا أنه في الآونة الأخيرة زادت خطورة التقاعد المبكر على نظام التأمينات الاجتماعية بسبب تفشي السعودة الوهمية الناتجة عن تطبيق نطاقات، فطالبٌ يبلغ من العمر 15 عاماً وظّف وهمياً وسجل بالحد الأدنى للأجر قد تمضي عشر سنوات قبل تخرجه من الجامعة والتحاقه بعمل وأجر حقيقيين، وبعدها بـ 15 عاماً فقط سيكون مستحقاً للتقاعد المبكر لإكماله 25 عاماً من الاشتراك بنظام التأمينات الاجتماعية وهو لم يتجاوز الأربعين من عمره بعد، بل حتى يستطيع في آخر سنتين قبل تقاعده أن يرفع أجره الخاضع للاشتراك إلى 45 ألف ريال، ما يعني أنه سيُصرف له معاش تقاعدي يزيد على 28 ألف ريال شهرياً لعدة عقود، رغم أن إجمالي ما دُفع عنه من اشتراكات قد لا يعادل معاشه التقاعدي لمدة سنتين فقط، وهذا أمر لا يمكن لأي نظام تقاعدي تحمله مطلقاً.
وفي ظل هذا التهديد الخطير الذي يعانيه نظاما التقاعد بالمملكة بسبب التقاعد المبكر، فإن هناك حاجة لإصلاحين مهمين:
1 - إصلاح نظام تبادل المنافع بين النظامين، فنظام تبادل المنافع بوضعه الحالي يشجع على التقاعد المبكر وكان المفترض أن يكون نظاماً يشجع على الحد منه.. فهذا النظام بصورته الحالية لا يسمح بأن تكون مدة الاشتراك في النظامين مدداً مكملة لاستحقاق المعاش التقاعدي، ويلزم لكي يستحق الموظف تقاعداً مبكراً أن يكمل الحد الأدنى من سنوات الخدمة المطلوبة تحت النظام الجديد الذي ينتقل إليه أو يبلغ الـ60 عاماً.. على سبيل المثال، إذا انتقل موظف إلى القطاع الخاص بعد أن أمضى في القطاع الحكومي 15 عاماً من الخدمة، فإنه يلزم أن يعمل 25 عاماً أخرى في القطاع الخاص أو يبلغ سن الـ60 ليستحق راتباً تقاعدياً، في حين أنه كان مستحقاً للتقاعد المبكر بعد خمس سنوات فقط لو استمر في وظيفته الحكومية، من ثم فإنه على الأرجح سينتظر إلى استكمال 20 عاماً من الخدمة ليتقاعد ثم ينتقل للعمل تحت نظام التأمينات الاجتماعية، وبالتالي فنظام تبادل المنافع بوضعه الحالي لا يشجع الموظف على الانتقال دون تقاعد مبكر.
من ثم يجب إصلاح هذا النظام ليصبح هناك تكامل حقيقي في المدد بين النظامين، بحيث يكون الموظف مستحقاً للتقاعد المبكر بعد استكماله ما مجموعه 25 عاماً من الخدمة تحت كلا النظامين ما سيشجعه على عدم التقاعد المبكر من أحد النظامين عند رغبته في الانتقال للعمل تحت النظام الآخر.. فاطمئنان الموظف أن هذا الانتقال لن يترتب عليه حرمان له من حقه في التقاعد المبكر إن رغب في ذلك، سيشجعه على عدم التقاعد خصوصاً في ظل كون معظم من يتقاعدون مبكراً لا يتقاعدون فعلاً عن العمل، وإنما فقط ينتقلون للعمل في القطاع الخاص أو إدارة أعمالهم الخاصة، بالتالي على الأغلب سيجدون أن من مصلحتهم الخضوع لنظام التأمينات الاجتماعية وضم مدد خدمتهم تحت النظامين، فتنخفض طلبات التقاعد المبكر بشكل كبير.
2 - الإصلاح الثاني الضروري هو إعادة النظر في التقاعد المبكر بحيث يسمح للموظف بالتقاعد قبل بلوغه سن الـ 60، إن رغب في ذلك وكان ذلك بطلب منه، لكن لا يصرف له راتب تقاعدي إلا ببلوغه سن 60 عاماً. ففي ظل إصلاح نظام تبادل المنافع الذي نقترحه ولكون معظم المتقاعدين مبكراً، خصوصاً من يتقاعدون من القطاع الحكومي الخاضعين لنظام التقاعد، لا يتقاعدون فعلاً وإنما يلتحقون بوظائف في القطاع الخاص أو يبدؤون أعمالاً خاصة بهم، فإنه لا مبرر لصرف راتب تقاعدي لهم قبل بلوغ السن النظامية للتقاعد.
الكثير منا قد يعتقد أن لا مصلحة له في مثل هذا الإصلاح ويرغب أن يبقى التقاعد المبكر على حاله، لكنها نظرة قصيرة الأمد وسيكون هو المتضرر بشكل مباشر من أي تدهور مالي تتعرض له أنظمة التقاعد بالمملكة، وهذا أمر مؤكد الحدوث ما لم يصلح وضع هذه الأنظمة سريعاً، فهو وضع غير قابل للاستمرار حتى وإن توهمنا خلاف ذلك.