أكثر من أي وقت مضى، يُظهر المديرون اليوم انهماكهم بمفهوم اختصاره الإنكليزي هو «فوكا» vuca وهو تصغير بشع لما تواجهه الشركات من «تقلبات، وعدم استقرار، وتعقيد، وغموض»، ما يتطلب النظر إلى الاستراتيجية بعين مختلفة تماماً. واللافت أن هذه الطريقة الجديدة تحمل تسميات مختلفة، من بينها: الاستراتيجية الموجهة من الاستكشاف»، و»الاستراتيجية الناشئة»، و»الاستراتيجية المتحركة» وغيرها. ويفيد جميعها أنه في عالم «التقلبات، وعدم الاستقرار، والتعقيد، والغموض» الذي نعيش فيه، علينا الاكتفاء باختبار أمر معيّن، ومعرفة الطريقة التي يعمل فيها، وتعديله. أمّا التفكير في الاستراتيجية قبل التصرّف، فهو بكل بساطة رجعيّ. لا أؤيّد ما سبق على الإطلاق. والواقع أنّه ما من أدلة دامغة على أن عالمنا الحالي أكثر عرضة للتقلّبات، وعدم الاستقرار، والتعقيد، والغموض مما كانت عليه في ما مضى، علماً بأنّ كل جيل يزعم أن المرحلة التي يعيش فيها هي أكثر اضطراباً من سابقتها. ويعود الأمر جزئياً إلى كون الماضي معروفاً ومفهوماً، وبالتالي، ننسى إلى أي مدى كان عدم الاستقرار سائداً في تلك المرحلة. ولكن هل يخطر لنا أن العالم لم يختبر التقلبات، وعدم الاستقرار، والتعقيد، والغموض عندما تسببت حقبة «الموت الأسود» بمقتل 25 في المئة من سكّان الأرض؟ وهل يخطر لنا أن العالم لم يختبر حالة من التقلبات، وعدم الاستقرار، والتعقيد، والغموض، عندما اكتشفنا أن كوكبنا ليس مسطحاً؟ أبداً! فهذه الحالة لطالما كانت بقيت سائدة في أوساطنا.
ومن بين التداعيات المنطقية المنبثقة عن هذه الحقيقة، أنّ التخطيط المسبق لطالما قوّض الفعاليّة أثناء التصرّف، ما يزيل بدوره مصداقيّة التبرير الشعبي الذي يفيد بأن الاستراتيجية التقليدية لا تنجح لأنه لا يمكن التخطيط لأي أمر في أيامنا هذه. والواقع أنّ مبدأ استناد الاستراتيجية، بكلّ بساطة، إلى إظهار رد فعل سريع في مواجهة تبدّل الظروف، هو ذريعة للتهرّب من المسؤوليّة.
ومن الطبيعي أن تكون القرارات الحاسمة حول مواطن التصرّف وكيفيّة تحقيق النجاح فيها الكثير من الصعوبة والإزعاج. وفي هذا السياق، لا أقول إنّه لا ينبغي التكيّف مع الظروف على الإطلاق، بل أشير إلى ضرورة اتخاذ قرار قبل الإقدام على أيّ عمليّة التكيّف، لأنّه في الاستراتيجيات القابلة للتكييف التي يتمّ اعتمادها نكون منذ الأساس في موقف لا نقوم فيه يوماً بأيّ من هذه الخيارات، إذ إنّ الشركات التي تعتمد نماذج استراتيجيات قابلة للتكييف تعذر نفسها بكل بساطة لأنّها لم تقم بخيارات صعبة وخطيرة. وتبرر موقفها قائلة إنه بسبب تعذر اتخاذ قرارات استراتيجية، يتمثل أفضل مسار بمواصلة القيام بما كنّا نفعله، إلى أن يظهر سبب واضح يحثّنا على الكفّ عن ذلك.
وبالتالي، ما الذي تفعله هذه الشركات؟ الأرجح أنها تضع خططاً، لأنها طريقة التصرّف التي تعرفها، ولأن هذا ما ترتاح للقيام به، لنعود إلى نقطة الانطلاق، وإلى أمور نعرف بأنها لن تنجح، لأنّنا نضع خططاً في عالم من التقلبات، وعدم الاستقرار، والتعقيد، والغموض.