عندما تعثر الإعلان عن ولادة حكومة (التوافق) الفلسطيني بين جناحي الصراع: (فتح) في الضفة الغربية و(حماس) في قطاع غزة.. في الأيام الأخيرة - من الأربعاء إلى يوم الاثنين.. الماضيين - بسبب اختلافين جزئيين هامشيين، لا يقدمان أو يؤخران قليلاً أو كثيراً.. أمام إنجاز (المصالحة) نفسها الأكبر والأهم: (حول) حقيبة (الخارجية)..
ومن يتولاها: أهو رياض المالكي وزير الخارجية في حكومة (فتح) وصاحب الإنجاز التاريخي في انضمام (فلسطين) - الدولة العضو المراقب في الأمم المتحدة - إلى اتفاقيات جنيف الأربعة الشهيرة وإلى بقية المعاهدات والمواثيق الأممية الثلاثة عشر في إبريل الماضي.. وكما يصر الرئيس محمود عباس؟ أم غيره.. كما تريد (حماس).. وفي ذهنها - ربما - إعادة وزير خارجيتها الأسبق في حكومتها المقالة «الشيخ» محمود الزهار.. الذي ترك انطباعاً عربياً - قبل أن يكون دولياً - بأنه (داعية) بأكثر منه وزيراً لخارجية السلطة الفلسطينية، وحول (وزارة الأسرى) التي يرى الرئيس محمود عباس - زعيم (فتح) -.. إلغاءها وإحلالها بـ(هيئة وطنية)، بينما يصر (الحماسيون) ورئيس وزرائهم (هنية) على بقائها، كنت أتذكر ما كان يقوله الزعيم الفلسطيني الشهيد (ياسر عرفات) ويردده.. كلما وجد نفسه مكتوف اليدين أمام صراعات واختلافات قيادات فصائل المقاومة من حوله حول (أموال) منظمة التحرير أو (مناصبها): (لا تلوموني، فأنا كمن يحمل كيساً من «البصل».. مليئاً بالرؤوس).. وقد صدق في تشبيهه الرائع..!! فكل قيادي أو شبه قيادي من فصائل المقاومة - الذي يشكل مجموعها منظمة التحرير الفلسطينية - كان يرى نفسه (رأساً) مدبرة.. يجب الاستماع إليها.. والأخذ بما ترتأيه!!
لكن مشكلتي (الحقيبتين).. سرعان ما حلتا.. ربما بـ(المثل) الذي استعاده الأستاذ موسى أبو مرزوق - مسؤول ملف المصالحة مع (فتح) - بـ(ذكاء) وحرفية (سياسية) في تلك اللحظات الفارقة التي كان يمكن لها أن تودي بـ(حكومة الوفاق) وبـ(المصالحة الفلسطينية) نفسها.. عندما قال لـ(الحماسيين): (من باع الجمل.. لا يبكي على خطامه)..! ليعلن رئيس حكومة غزة السيد إسماعيل هنية (إنهاء مهام حكومته وتسليمها لحكومة التوافق).. برئاسة الدكتور رامي الحمد الله بـ(اعتباره اختيار حركتي فتح وحماس)، التي وصفها بأنها (حكومة الشعب والنظام الفلسطيني الواحد).. بل وإنها (استدراك تاريخي لإنهاء مرحلة الانقسام الداخلي).. لتنتهي (أزمة) الأيام أو الساعات الأخيرة، ويتم الإعلان عن أعضاء حكومة الوفاق أو الاتفاق الوطني.. بوزرائها السبعة عشر.. وبـ(المالكي) للخارجية، وبـ(إسقاط) وزارة الأسرى من حقائبها.. وكما ارتأى الرئيس محمود عباس بـ(خبرته) النضالية والتفاوضية الطويلة مع (الطرفين) اللذين واجههما منذ توقيعه اتفاق أوسلو في حديقة البيت الأبيض - في سبتمبر من عام 1993م - بحضور عرفات ورابين، واللذين سيظل يواجههما بامتداد مشوار السلام و(حل الدولتين)، وأعني بهما (إسرائيل) والولايات المتحدة الأمريكية: (وجها) عملة الاحتلال للأراضي الفلسطينية..!!
* * *
فإذا أخذ (الحماسيون) على الرئيس عباس (مرونته) بإسقاط (وزارة الأسرى).. أخذاً بمبدأ (أن السياسة.. هي «فن الممكن»)! أو (استسلامه) للضغط الإسرائيلي الأمريكي عليه بـ(إسقاطها) كما يراه (الحماسويون)، فإن الذي يحسب له ولتاريخه باعتباره بقية البقية من الزعامات التاريخية التي أنجزت (اتفاق أوسلو) الأعظم.. والمختلف عليه فلسطينياً.. كالعادة!! إنه رفض التهديد الإسرائيلي.. والذي جاء على لسان (نتنياهو) بأن (على السلطة الفلسطينية الاختيار بين «السلام» مع حكومته أو «المصالحة» مع حماس)..!! فاختار المصالحة مع (حماس)!! لأنه الاختيار الإستراتيجي الأدق الذي يخدم حاضر (القضية) ومستقبلها، وحاضر ومستقبل المليون والنصف مليون فلسطيني الذين يقيمون في (القطاع).. قبل وبعد أن سدت ثورة الثلاثين من يونيه المصرية التصحيحية الأفق أمام (حكومة حماس) المقالة.. بما كشفته عن أممية (الإخوان) الواهمة وأحلامها التائهة والتي ارتبطت بها (حكومة حماس) أشد الارتباط.. حتى أصبحت لعبة في يدها!!
لقد اختار الرئيس عباس.. المصالحة مع (حماس).. لأنه اختار (وحدة) الشعب الفلسطيني على تمزقه، ورمى خلف ظهره.. بتهديدات (نتنياهو) الذي يضم ائتلاف (حكومته) أحزاباً أشد تطرفاً في رفضها لـ(السلام) مع الفلسطينيين من رفض (حماس) للسلام مع إسرائيل.. كحزبه نفسه (الليكود) و(شاس) و(إسرائيل بيتنا).. المؤتلف معهم، دون أن يسأله (أبو مازن) فض ائتلافه معهم.. كـ(شرط) للتفاوض معه حول (السلام) و(حل الدولتين).. فتلك هي (الديمقراطية) ولعبة أغلبيتها، وهو ما لا يحق لـ (نتنياهو) في المقابل مطالبة أبو مازن بفض ائتلافه - أو اتفاقه - مع (حماس) من أجل (السلام) ومفاوضاته، لأنه يدرك بـ(تجربته) السياسية العميقة بأن (السلام) سيتحقق في النهاية.. بوحدة الفلسطينيين وليس بـ(انقسامهم) سواء هذا العام - كما يحلم ويتمنى - أو بعد عام أو أكثر أو أقل، وبـ(رضا) إسرائيل أو اضطرارها.. فإسرائيل مهما تعاظمت قوتها وغرورها.. لن تستطيع أن تلقي بستة ملايين فلسطيني في البحر وتخلص منهم..!! لتفعل ما تشاء بأرضهم..؟
* * *
على أنه يبقى أمام الرئيس محمود عباس - بعد نجاح المصالحة الوطنية مع (القطاع)، وتشكيل حكومة الوفاق الوطني بـ (اتفاق) فتح وحماس من وزراء مستقلين عنهما - مهمة التصدي لهذه الضوضاء الإعلامية السياسية التي بدأها نتنياهو ضد (حكومة الوفاق) قبل الإعلان عن تشكيلها.. بتحريض دول العالم - وهو يقصد الغربي منها.. خاصة - على عدم الاعتراف بها والتعامل معها عندما قال في جلسة مجلس وزرائه - مساء الأحد الماضي -: (أدعو كل الأطراف المسؤولة في المجتمع الدولي بألا تسارع بالاعتراف بحكومة فلسطينية تشكل حماس جزءاً منها)!! فـ(حماس منظمة إرهابية تدعو إلى تدمير إسرائيل.. ولا ينبغي على المجتمع الدولي أن يقبلها، لأن هذا لن يعزز السلام بل سيدعم الإرهاب)!! وكأن (إسرائيل) هي حمامة السلام البريئة التي تسعى لـ (السلام) وحيدة وهي تخشى عليه من وحوش (حماس)!! ولكن من سوء حظه ومن حسن حظ السلطة.. أن داعمه الأول - الرئيس الأمريكي - والذي يعلم بدقائق ما يجري فوق الأرض الفلسطينية.. كان قد بعث بـ(برقية) للرئيس محمود عباس يوم الخميس الماضي - وهو آخر يوم من أيام المهلة التي حددها الدستور الفلسطيني.. بخمسة أسابيع حتى يقوم رئيس الوزراء المكلف بتشكيل حكومته، وتقديم قائمة أسماء وزرائه.. ليتم اعتمادها من قبل رئيس السلطة - يؤكد فيها (التزام الولايات المتحدة برعاية مفاوضات التسوية بين السلطة الفلسطينية وإسرائيل والتي انتهت مهلتها في نهاية الشهر الماضي بعد تسعة أشهر من المحادثات دون التوصل لاتفاق)، وهو يشير بلطف ورقة إلى زيارة الرئيس محمود عباس له.. في البيت الأبيض في شهر مارس الماضي، وإلى الهدايا (اللطيفة) التي قدمها له.. لينطلق من ذلك اللقاء البعيد إلى القول (كما أكدت في اللقاء، فإن الولايات المتحدة ملتزمة بشكل معمق بمفاوضات بين الإسرائيليين والفلسطينيين تؤدي إلى قيام دولة فلسطينية مستقلة.. قابلة للحياة ومتواصلة.. تعيش جنباً إلى جنب مع دولة إسرائيل).
وبالتأكيد لم تخن الرئيس أوباما.. ذاكرته، حتى يبعث بـ(برقية) كهذه في ذلك اليوم تحديداً.. ولكنه أراد بـ(برقيته) أن يبعث برسالة إلى الرئيس عباس والدكتور رامي الحمد الله.. بقبول حكومة الوفاق الوطني و(العمل) معها - دون الاعتراف بها إرضاءً لإسرائيل - وهو ما تم الإعلان عنه صراحة فيما بعد، وأكدته من قبل.. تلك (الزيارة) التي قام بها القنصل الأمريكي العام (مايكل راتني) لرئيس السلطة.. في رام الله؟! في ذات يوم وصول برقية (أوباما) إلى الرئيس عباس، وليس قبلها أو بعدها لـ(بحث آخر مستجدات العملية السلمية والجهود الأمريكية بهذا الصدد).. وهو يعلم كما يعلم الجميع بأنها متوقفة منذ نهاية شهر مارس الماضي!!، وهو ما يقطع الطريق على نتنياهو وتحريضه دول العالم الغربي - بالذات - على مقاطعة حكومة الوفاق الوطني (الحماسوية) التي ليس بينها غير ثلاثة وزراء من (غزة) - وليسوا من حماس - لم تسمح إسرائيل بعبورهم إلى (رام الله) لأداء اليمين الدستورية أمام الرئيس عباس..؟!
على أي حال.. لم تكتف (إسرائيل) بـ(التحريض) ولا بمنع مرور الوزراء الغزاويين إلى رام الله ولا بتأكيد إعلانها السابق عن إيقاف تحويل الضرائب إلى خزينة السلطة.. بل تجاوزت كل ذلك بـ(همجيتها) واستخفافها المعهودين إلى الإعلان عن إقامة ألف وأربعمائة وحدة سكنية استيطانية جديدة في (القدس الشرقية) عاصمة الدولة المرتقبة.. رداً على تشكيل حكومة الوفاق!! وهو ما يدعوني لأن أذكِّر مجدداً وزير الخارجية الفلسطيني الفذ (رياض المالكي)، وقد جُدد له في حكومة الوفاق الوطني.. بـ (المسارعة) في دعوة وزراء خارجية (بريطانيا وفرنسا وإيطاليا وأسبانيا واللوكسمبورج) الذين عارضوا (الاستيطان الإسرائيلي) عملياً باستدعاء سفراء إسرائيل لديها وتحذيرهم من (المقاطعة) إن استمروا في سياساتهم الاستيطانية.. لزيارة الأراضي الفلسطينية، ليروا (الاستيطان) الإسرائيلي، وما فعله ويفعله بأراضي الدولة الفلسطينية المرتقبة.. من جانب، وليروا (أداء) حكومة (الوفاق الوطني) على أرض الواقع.. والتي تحرض إسرائيل على مقاطعتها.. من الجانب الآخر. فليس من رأى كمن سمع..!؟
* * *
فهل نستطيع.. أن نقول وبـ(ثقة).. إن السنوات السبع العجاف الماضيات، والتي لم تعط (سلاماً) لعباس أو (رخاءً) لهنية.. قد ولت من حياة الفلسطينيين.. وإلى غير رجعة..؟!
إن ذلك هو ما نرجوه ونأمله، ونحن نرحب بـ(المصالحة) وبـ(حكومة الوفاق).. اللتين غسلتا عار فضيحة الاختلافات المخزية بين أبناء القضية الواحدة.. السجناء في زنزانتي (الضفة) و(القطاع)..؟!