أمام لعبة (مسمار جحا) الإسرائيلي الذي يتغيّر ويتبدّل بين كل حين وآخر من عمر مفاوضات التسعة أشهر - من أغسطس إلى إبريل الماضيين - التي قادها ويقودها (جون كيري) وزير الخارجية الأمريكي ربما بأكبر قدر من النزاهة الأمريكية المستطاعة.. مقارنة بسابقتيه (كونذليزا) و(هيلاري) (!!)
... لإنجاز (حل الدولتين: الإسرائيلية والعربية.. اللتان تعيشان جنباً لجنب في سلام).. فإنّ إمكانية تحقيقه على أرض الواقع بين دولة إسرائيل (القائمة).. ودولة فلسطين (المرتقبة).. لا تلوح في أفق هذا العام (2014م).. رغم (تطلّعات) الوزير (جون كيري) و(أحلام) الرئيس محمود عباس، ورغم أنه مايزال في بقية أيام هذا العام ثمانية أشهر بطولها.. بسبب هذه (المسامير) التي أخذت تعلقها إسرائيل تباعاً فوق جدار هذه المفاوضات أو في قلبها على وجه الدقة..! والتي كان أولها: مسمار (الامتناع) عن إطلاق سراح الدفعة الرابعة من سجناء ما قبل اتفاق أوسلو 93م.. وقد كان موضوع إطلاقهم على أربع دفعات هو أحد (المغريات) التي قدمها (كيري) لجذب الفلسطينيين لمائدة التفاوض ثانية مع إسرائيل بعد امتناعهم عن مواصلتها لثلاث سنوات متتالية.. على أن يرجئ الفلسطينيون - في المقابل - مطلب إيقاف (الاستيطان) إلى حين الانتهاء من المفاوضات بسقفها الزمني المحدّد بتسعة أشهر، والتي ستحل كل قضايا الخلافات الفلسطينية الإسرائيلية الكبرى كـ(الحدود واللاجئين والاستيطان و»القدس الشرقية» عاصمة الدولة الفلسطينية المرتقبة)، وهي تحوِّل امتناعها عن إطلاق تلك الدفعة.. من (إغراء) للفلسطينيين كما أراده كيري.. إلى (شرط) عليهم بإعلان (موافقتهم) على تمديد المفاوضات لثلاثة أشهر بعد إبريل (!!) وإلاّ.. لا عودة لاستئناف المفاوضات..؟!
فكان أن تعثرت المفاوضات.. بل وتوقفت في مستوياتها الرئاسية العليا الحاسمة بين عباس ونتنياهو وكيري بينهما، ليسعى الفلسطينيون أثناءها إلى الانضمام إلى مواثيق ومعاهدات منظمات الأمم المتحدة الخمسة عشر - بحكم عضويتهم في الجمعية العمومية للأمم المتحدة - والاعتراف بهم كـ(دولة مراقب) بإجماع دول العالم.. باستثناء الولايات المتحدة الأمريكية والإمعات من أتباعها.. فكان أن حققوا إنجازهم التاريخي بالانضمام إلى (اتفاقيات جنيف الأربعة) الكبرى التي تحمي أراضي الدول المحتلة - كفلسطين - من سطوة (استيطان) أراضيها، وتحمي أبناءها من الأسر ورميهم في السجون دون محاكمات، لتضيف إسرائيل إلى (مسمار الامتناع) عن إطلاق سراح الدفعة الرابعة.. مسماراً جديداً هو (الاعتراف) بـ(يهودية) دولة إسرائيل وإلا لا عودة لـ(المفاوضات) أصلاً، وهو تناقض مضحك مدهش عجيب.. بين طلب «التمديد» للمفاوضات.. وإعلان «الامتناع» عنها ما لم يتم الاعتراف بـ(يهودية) دولة إسرائيل، لا يقدم عليه إلا (أوباش) الليكود.. الحزب الإسرائيلي الحاكم، ومع اهتياج المجتمع الدولي.. من هذه (العنصرية) المخجلة التي كشفت عنها إسرائيل صراحة، والتي يرفضها ميثاق الأمم المتحدة والعالم أجمع من أقصاه إلى أقصاه.. بل والشريك الاستراتيجي الأمريكي لإسرائيل والحليف الأوروبي المداهن لها، اللذان عادة ما يتغنيان بـ(إسرائيل) واحة الديمقراطية الوحيدة في الشرق الأوسط.. كانت إسرائيل تنتقل إلى وضع مسمارها الثالث - الذي جاء مؤخراً هذه المرة - على لسان نتنياهو بأنّ (على السلطة الفلسطينية الاختيار بين السلام مع حكومته أو المصالحة مع حماس)؟! وأن الكرة في ملعب الرئيس محمود عباس.. وعليه أن يختار (!!) بينما كانت إسرائيل نتنياهو نفسها عند بدء المفاوضات.. تستخدم ذريعة (الانقسام الفلسطيني) كعذر لعدم تطبيق (اتفاق السلام) أو (إطار السلام) الذي يسعى إليه (كيري) عند بلوغه..؟! لأنها لا تريد (فلسطينين).. بل فلسطين واحدة..!.
* * *
إنّ تعليق هذه المسامير الإسرائيلية المتلاحقة من «الامتناع» عن إطلاق سراح الدفعة الرابعة من المساجين الفلسطينيين.. إلى «وجوب» الاعتراف الفلسطيني بـ (يهودية) دولة إسرائيل.. إلى «نبذ» المصالحة الوطنية مع (حماس).. إلى ما قد يستجد من (مسامير) أخرى.. لا يعني إلاّ شيئاً واحداً هو أنّ إسرائيل لا تريد (السلام).. ولكنها تريد (الأرض).! ولذلك.. فهي تستخدم كل ما لديها من وسائل لتعطيل قطار المفاوضات.. بما يتيح لها فرصة بناء المزيد من المستوطنات - أفضل وسائل الاستيلاء على الأراضي الفلسطينية ، إلاّ أنّ عينها تظل - فقط - على (رضا) الحليف الاقتصادي الأوروبي، الذي تخشى أن يتحوّل تهديده بـ(مقاطعة) إسرائيل اقتصادياً إلى (أمر واقع) لا تريده ولا تقوى عليه، أما الحليف الأمريكي الاستراتيجي.. فهو في كل الأحوال في (اليد) إن لم يكن في (الحضن) الإسرائيلي.. أما هرطقات (كيري) من وجهة نظرها والحالة التبشيرية الرسولية التي تتغشاه في إنجاز (حل الدولتين)، بـ(قدس شرقية) كعاصمة لدولة الفلسطينيين المرتقبة.. ومستوطنات إسرائيلية تحت الإدارة الفلسطينية، فإنها مرهونة بولاية أوباما التي ستنتهي بعد عام وبضعة أشهر، أما عامها الأخير فستكون الولايات المتحدة الأمريكية مشغولة فيه بنفسها وانتخابات رئيسها الخلف لـ(أوباما).. عن أي شيء آخر.
إن إسرائيل تعلم.. بأن رفضها لـ(السلام) وحل الدولتين.. إنما يعني (الحرب)!! إلا أنها مطمئنة بل واثقة كل الثقة بحساباتها.. من أنه وبقدر كراهتها لـ(السلام).. بقدر كراهة الفلسطينيين والعرب لـ(الحرب).! وأن آخر الحروب العربية الإسرائيلية هي حرب أكتوبر 73م وكما قال السادات في أيامه.
* * *
لكن فات على (نتنياهو) ومن شاركه كتابة (سيناريو الأحلام) هذا التدميري لـ(المفاوضات) وللسلام من حمائم تكتل (الليكود).. أن يحصنوه بعدم التورط في مطالبة الفلسطينيين بـ(الاعتراف) بـ(يهودية) إسرائيل.. كشرط لاستئناف المفاوضات معهم، وهو ما فتح عليهم أبواب جهنم كما يقولون.. إذ أعاد العالم إلى معاناته الطويلة والقديمة مع دولة (جنوب أفريقيا) العنصرية، ومبدأ الفصل العنصري (الابارتايد) الذي اعتمدت تطبيقه ضد الأفارقة السود من أبناء الوطن.. لحساب مستعمري (جنوب أفريقيا) ومستوطنيها البيض، والتي انتهت بعد ستة وأربعين عاماً (48م - 1994م).. ببزوغ الرئيس (جون دي كلارك) الأبيض.. والزعيم الأفريقي الأسطوري الأسود نيلسون مانديلا، لتقوم دولة العدل والمساواة بين البيض والسود.. معاً، كما أعاد لأذهان النخب الأمريكية والأوروبية على وجه الخصوص ولـ(ذاكرة) وكالات الأنباء العالمية ما جاء في كتاب الرئيس الأسبق جيمي كارتر الذي أصدره عام 2006م عن (فلسطين السلام وليس الفصل العنصري) بفضائح خرائطه عن الاستيطان المسعور في أراضي السلطة الفلسطينية.. لتغرف منه ما تشاء، وهو ما جعل (كيري) يجرؤ على القول ربما لأول مرة (إن إسرائيل قد تصبح دولة فصل عنصري في حال لم تتوصل إلى السلام قريباً مع الفلسطينيين)!! و(أن حل الدولتين يجب التأكيد عليه على أنه البديل الوحيد الواقعي، لأنّ دولة أحادية سينتهي بها الأمر أن تصبح إما دولة فصل عنصري مع مواطنين من الدرجة الثانية، أو دولة تدمر قدرة إسرائيل على أن تكون دولة يهودية)!! وقد يخرج من بين دول الجمعية العامة للأمم المتحدة المائة والثلاث والتسعين دولة.. من ينفض الغبار عن القرار الأممي السابق باعتبار (الصهيونية) حركة عنصرية.. مع طلب إعادة التصويت عليه، وساعتها لن يفلح (ذكاء) نتنياهو ومن معه من زمرة حمائم (الليكود) في صد هجمة العالم بأسره عليهم.. باعتبارهم الدولة العنصرية الوحيدة الباقية في العالم..!!
* * *
إنّ على الفلسطينيين عموماً (فتحاويون) و(حماسيون)، بـ(مصالحة) وطنية أو بدونها.. أن يعوا اللحظة التاريخية التي يعيشونها ويعيشها العالم من حولهم، ويعيشها أشقاؤهم (العرب) الغائبون تماماً عن ساحات (الفعل) في قضايا الأمة المصيرية إلا من تصريحات لحفظ ماء الوجه حول (القضية) بين الحين والآخر.. لا تغني ولا تسمن.. بقدر ما تضحك وتبكي!! بينما هم يتمترسون بعتادهم وأموالهم وربما بـ(دسائسهم) لكسب معارك (مذهبية) طائفية لم تعد على بال أحد، فقد عفا عليها الزمن وتأكد للعقلاء بأنّ (الانتصار) كـ(الهزيمة) فيها: فادحا الثمن.. على الأمة وعلى مصيرها، إن عليهم أن يصطفوا صفاً واحداً في دعم مفاوضات (حل الدولتين) التي يقودها (كيري) بثبات وشجاعة وصبر على كل الاستفزازات التي أثارها ويثيرها (نتنياهو) وأوباش الليكود من حوله.
أما الرئيس محمود عباس.. نجم اتفاق أوسلو التاريخي - من الجانب الفلسطيني في «تونس» إلى جانب شريكه الآخر أحمد قريع في «أوسلو» - والذي وقع عليه مع إسحاق رابين في حديقة البيت الأبيض بحضور الرئيس الأمريكي بيل كلينتون في 13 /3 /1993م، فإن عليه أن ينسى تلك الأيام وينسى أعضاء حزب العمل الإسرائيلي من أمثال رابين وعزرا وايزمان وشيمون بيريز.. حتى وإن غدا هذه الأيام كـ(الغدة الصماء) التي تستوجب الإزالة، فقد كانوا أكثر معرفة وعلماً ووعياً بـ (جريمة) اغتصابهم لـ(فلسطين).. ولذلك كان يسهل التفاوض معهم والوصول معهم إلى ما هو (مقبول) وإن لم يكن عادلاً، أما أوباش (الليكود) الذين يلتفون حول (نتنياهو) فهم - وكما تعلم - أحفاد بيجين وأبناء شامير وإخوة شارون، ولذلك هم يحتاجون لمواجهتهم شجاعتك ودأبك وصبرك الذي عرفه فيك أبناء وطنك .. حتى تمضي مفاوضات (حل الدولتين) إلى نهايتها.. سواء بالتمديد لثلاثة أشهر أو ستة أو حتى لنهاية العام، فما ستعود به - في النهاية - من نتائج في ظل هذه التسريبات التي يضمرها ويعلنها (كيري) بين الحين والآخر .. سيكون أفضل من الانتظار لانتخابات أمريكية جديدة.. أو لمتغيرات تطرأ أو لا تطرأ على موازين القوى العالمية.