إن اليتيم هو الذي تلقى له...
أمّاً تخلت أو أباً مشغولاً
هكذا قال الشاعر أحمد شوقي قبل مائة عام، وهذا بيت من قصيدة عن التربية وعن المعلمين ولكن ما قاله في هذا البيت هو عن قصيدة بأكملها، ولو أن أحمد شوقي عاش بيننا في هذا الزمان لألف ديواناً، وليس أبياتاً أو قصائد في شأن تربية الأبناء وانشغال آبائهم وأمهاتهم عنهم!
نحن نعيش فترة الاختبارات الدراسية، وربما يكون تركيز بعض الآباء والأمهات على أبنائهم في هذه «الفترة» وأقول (بعض)، وليس (كل)؛ لأن هناك من لا يهتم بأمر أبنائه لا في أمورهم الدينية ولا الدنيوية، وهناك من أوكل المهمة للأم، واكتفى بدفع المصاريف، وفريق آخر الأب هو الأم والمربي، والأم مشغولة في أعمالها أو برامج زيارتها وزينتها، والطامة الكبرى حينما يكون جميع الوالدين من المنشغلين عن أبنائهم، وأوكلوا أمورهم المعيشية للخدم والخادمات، وأما الأمور الدينية فلا هذه ولا تلك!
لقد عني الفضلاء والنبلاء في سالف الزمن بتربية أبنائهم على أيديهم، بل وجلبوا لهم خيرة المربين من معلمين ومشايخ، ليربوا أبناءهم، ويهذبوا أخلاقهم، ويزودوهم بالعلوم النافعة والأخلاق الحسنة، ليكتسبوا منهم الآداب والصفات الحميدة سلوكاً وتعليماً ومكرمة، وذكرت كتب السير عناية الخلفاء، ومن أنعم الله عليهم كيف اتخذوا لأبنائهم المربين والمعلمين وملازمتهم إياهم مع ما يقوم به الخليفة أو التاجر من جهد في تربية ابنه، ومجالسته إياه حتى يكتسب كل شيء نافع.
وفي وقتنا الحاضر، وليس وقت أحمد شوقي كثرت المشاغل والملهيات، ولم يعد للأبناء نصيب من أوقات والديهم، بل حتى من يكون معهم في المنزل، وليس له ارتباط وأعمال خارجية أو «شلل» في الاستراحات والنزهات تراه مشغولاً بأجهزة (الجوال) ومواقع التواصل و(الإنترنت) أو في مطالعة الفضائيات، ومتابعة المباريات، ولم يعط لأبنائه دقائق يسيرة، وربما امتد ما به من داء حتى على مائدة الطعام، فترى الجوال بيده اليسرى، واليد الأخرى في الطعام، ويبادلهم النظرات، ولا ينظر إلى وجه أبنائه، وحرمهم حتى من النظرة العابرة، فكيف بالابتسامة والملاطفة والمحادثة والمؤانسة التي يحتاجها كل ابن وبنت من والديهم.
إن هذا الداء والانشغال بالتوافه ليس مقتصراً على الرجال وحدهم بل سرى إلى النساء، فقد شغلن عن أبنائهن وبناتهن بمواقع التواصل التقني وبمناسباتهن ومن «نومات الضحى» فسهر بالليل ونوم بالنهار، والخادمات يرتبن أمور الأبناء وإيقاظهم للمدارس، وتجهيز وجباتهم، فلا تسل عن حال بعض الأبناء وماضي حقائبهم، فقد وجدت إحدى المعلمات «ساندوتشاً» قد تعفن، ومر عليه أسبوع كامل في حقيبة طالب في «الروضة» بمعنى أنه صغير في السن، ويستلزم له رعاية أكثر من غيره، فماذا لو أكل ما في حقيبته من طعام نسيه قبل عدة أيام، وأكله على حين رغبة في الطعام أو على جوع؟!
وهناك من الآباء والأمهات من أسهموا في عزلة أبنائهم وبناتهم حينما تركوا لهم «الحبل على الغارب» برفقة الأجهزة الإلكترونية أو لأصحاب دونما تخصيص أوقات لهذه الأمور، وعلى حساب وقتهم الثمين مع العائلة ووقتهم الثمين في مصالحهم الدينية والدنيوية.
لقد انشغل كثير من الآباء والأمهات بأمور هي من التوافه سواء داخل المنزل أو خارجه، ونسوا فلذات أكبادهم، وتركوهم مع عوامل مؤثرة في التربية من أجهزة وأصحاب ومجتمع يعج بالكثير من الأخطار المحدقة التي لا يستطيع الأبناء التعامل معها، والخروج من مأزقها بدون موجه، ولربما كان الموجه من رفاق السوء أو رفاق سوء عبر الوسائط الإلكترونية الذين ربما أثروا على الأبناء في عقائدهم وفي سلوكهم وأخلاقهم، وكم رأينا مع الأسف أن ممن ابتلوا بالفكر الضال، وتطرفوا، وحملوا السلاح، كانوا يتلقون المعلومات الضالة والفكر المنحرف عبر الإنترنت، ومواقع التواصل الاجتماعي، وكم سمعنا عن تورط فتيات بعلاقات عن طريق الأجهزة، كل ذلك في حين غفلة الوالدين.
و{إِنَّا لِلّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعونَ}.