أرامكو لا تختلف جوهريا في مصادر ونوعية تأسيسها العلمي والتدريبي عن غالب القطاعات الحكومية والشركات الكبرى والبنوك.
فبلادنا لم تتدرج تنمويا لتنتقل من حياة البساطة والعدم إلى حياة الحضارة الحديثة، بل قد كانت قفزات ضوئية اختزلت مئات من السنين قضتها الدول الأجنبية المتطورة في التجارب والمحاولات والتعلم.
وإن كان توحيد البلاد تحت راية واحدة وانتشار الأمن وتثبيت الحكم والنظام السياسي -الذي هو أُسُّ القاعدة لأي حضارة- قد تم وقام واستمر بسواعد أبناء هذا الوطن وإخلاصهم وجهدهم وعزيمتهم وتضحيتهم وتعاونهم، إلا أن البنية الحضارية العلمية لا يمكن تحقيقها ذاتيا كما تحققت معجزة توحيد هذه البلاد. ومن هنا كان التوجه للبلاد المتقدمة للاستفادة من خبراتها والتعلم من أساليبها، ضرورة حتمية لاختزال مئات السنين.
فالبلاد الأجنبية المتقدمة، سواء بابتعاث أبنائنا لها أو بجلب خبراتهم إلينا عن طريقة شركاتهم الاستشارية والإنشائية، هي التي قطعت بنا الفجوة الزمنية الحضارية فأوصلتنا إلى الطريق الحضاري المعاصر.
وباستثناء بعض الأمور في المؤسسات الدينية ومتعلقاتها ومخرجاتها، فإن كل مظهر من مظاهر المدنية والحضارة في بلادنا صغر أو كبر، ماديا كان أو تخطيطيا أو تنظيميا، فإن الأجنبي الغربي هو الذي ابتدأه. سواء أكان الأجنبي هو من صنعه مباشرة بالبناء والتجهيز بالمعدات، أو غير مباشرة بالتعليم أو بالاستشارة. وهذا التعميم يشمل أرامكو وغير أرامكو، فالأساسات والمصدر والطريقة واحدة. والسعوديون في أرامكو هم السعوديون في خارجها، بل لعل من ابتدأ مع أرامكو من السعوديين كان أقل تعليما وانضباطا مدنيا. ولكن طريق الحضارة، الذي وضعنا عليه الأجنبي الغربي، طريق متحرك. فالمتقدم فيه اليوم، يصبح متأخرا متخلفا غدا، إن لم يواصل المسير. ومن هنا افترقت أرامكو عن باقي منظمات البلاد، حيث واصلت أرامكو المسيرة بينما تباطأ غيرها أو توقف. وبقدر التباطؤ أو التوقف، انعكس تخلف هذه المنظمات على عجزها عن القيام بالمشاريع التنموية العظيمة اليوم أو قيادتها وإدارتها فلهذا اُستدعيت أرامكو، لقيادة المشاريع المتقدمة والمتعثرة.
سر أرامكو في ثقافتها العملية المختلفة عن ثقافة الآخرين. وثقافة العمل لا تأتي من فراغ بل هي امتداد ونتيجة لثقافة المجتمع. فتقييد الفكر في المجتمع ينعكس على المقدرة العقلية الإبداعية لأفراده في العمل. والإهمال أو التواكل في المجتمع ينعكس على عدم الانضباطية في العمل.
وثقافة أرامكو مرت بمرحلتين: التشكيل بسبب العُزلة المكانية ثم الاستمرارية بسبب الانعزالية الثقافية.
فأرامكو كانت أول مؤسسات البلاد الحضارية التي قام الأجنبي الغربي ببنائها وتشييد مشاريعها وإدارتها والإشراف عليها. فتلقت ارامكو الصدمة الأولى للممانعة الحضارية التقدمية. ورب ألم وغُصة كان سببا لشفاء وبهجة. فعزل أرامكو عن المجتمع السعودي بسبب المعارضة التي قامت ضدها بتهمة التغريب، حقق لها استقلالية ثقافية جديدة أخرجتها من الثقافة السائدة مُشكلة ثقافة معدلة مطورة جعلت من أرامكو تتميز ككيـــان مختلف ثقافيا عن باقي البلاد.
وما كانت هذه الثقافة لتستمر لولا أن الانعزال قد تبع العَزل. فحــوادث الدنيا ليست وقائع زمنية منفصلـــة تنتهي نتائجها بها، بل هي سلسلة متشابكة يؤدي بعضها إلى بعض. فالحوادث تنقلب لتكون أسبابا لحوادث جديدة. فالعُزلة التي فُرضت على أرامكو بسبب المعارضة التي قامت ضدها باسم محاربة التغريب، قد انتهت منذ زمن الجيل الأول لأرامكو بعد زوال المعارضة باعتياد الناس عليها ورؤية خيرها ونفعها. ولكن أرامكو لم تخرج من عُزلتها قط. فما أن خرجت أرامكو من العزلة المكانية المفروضة عليها بسبب المعارضة، حتى دخلت في انعزالية ثقافتها الجديدة والتي ورثها الجيل الثاني، بطبيعة توارث الأبناء لثقافة الآباء.
فأرامكو لم تتخل عن ثقافتها المنضبطة الصارمة العادلة المنطقية في تعاملاتها المحلية مع القطاعين العام والخاص، (كالتوظيف والتعاقد للقيام بمشاريع الصيانة والنقل والمقاولات والتدريب وغيرها) فانقطعت بهذا أسباب الشلليات والمحسوبيات والصداقات المنفعية، التي هي الثقافة المهيمنة على الجانب العملي خارج أرامكو، سواء من القطاع العام أو الخاص. وهذا قد سبب لأرامكو انعزالية ثقافية مكنها من المحافظة على ثقافتها العلمية والعملية المتميزة التي مكنتها من نقل الخبرات والعلوم من الأجنبي إلى السعودي، (وبالتالي مواصلة التقدم) بينما فشل غيرها في ذلك ( وبالتالي المراوحة بلا تقدم بعد ذهاب الأجنبي، وتعويض التقدم بالتشوف والادعاءات وتحريف المعلومات وما يتبع ذلك من محسوبيات وثمن التغطية).
فخبير أرامكو خبير قائم بذاته، وخبير غيرها -غالبا- خبير قائم على غيره. ومن قام على غيره سَهُل خداعه واستغفاله واستنهابه، برضى منه أو غفلة أو مشاركة. ولهذا تُستدعى أرامكو لقيادة المشاريع الاستراتيجة الضخمة ولإنقاذ المشاريع المتعثرة. و»وهم الخبير» باب يحتاج إلى تفصيل يأتي في مقال الخميس القادم.
فسر نجاح أرامكو في كونها كيانا ثقافيا مستقلا ومختلفا. ولكن هل ستنجح أرامكو في جميع مهامها خارج منظومة كيان أرامكو؟ فإن تقيم أرامكو مشروعا كاملا فهذا لا إشكال فيه، فهي تعيش وسط ثقافتها وتطبق منظومتها الإدارية محافظة على كيانها الثقافي. وأما أن يخرج فرد أو أفراد منها لإدارة أو قيادة مشروع متعثر أو مستشفى أو كعضو في لجان أو مجالس رفيعة المستوى أو نحو ذلك، فهذا أمر آخر، نتائجه لها احتماليات مختلفة عن احتمالية ضمان النجاح الذي أثبتته أرامكو ككيان واحد . فالقادم وحده قد تبتلعه ثقافة الأغلبية فتغلبه، فتفقده مهاراته، أو قد يتطبع بها أو ينقاد لها باللامبالاة والإهمال. وبهذا يُصبح ضرره أكبر من نفعه، لكون قراراته وآرائه لها آثار متعدية على قرارات وآراء غيره بتأثير المؤثر النفسي « لفتنة الخبير» والحديث حول هذا ندعه لمقال السبت القادم.