في مقال الخميس تحدثنا عن السياسة التفاضلية للشركات الاستشارية الأجنبية التي تتهاون أو تجتهد في عملها تبعا لقوة مهنية زبونها وتوجهه ومعرفته. وأشرت بأن الخيل تعرف خيَّالها. فعندما تدرك الشركة الأجنبية أن طالب الدراسة ليس فارسا تقوم بتوفير الجهد والوقت والكلفة، فتقدم دراسة لا تزيد في قيمتها الاستشارية، عن القطع واللصق، قد غشاها هيمنة العراقة الاستشارية الأجنبية، وزيََّنتها البديعات التحسينية التصويرية فأصبحت دراسة مهنية راقية.
ورغم ذلك، فإنه يمكن بسهولة تشريح الدراسة وإظهار حقيقتها وتخيل سناريو كتابتها. فيكاد يُجزم لقارئها، بأن الاستشاري قام أولا فوضع النتيجة التي يريدها الزبون، ثم أيد الاستشاري نجاح فكرة المشروع. وبعد ذلك يظهر للقارئ استنساخ الاستشاري لجميع أو غالب التطبيقات والنماذج العالمية الناجحة لهذا المشروع. وترى حرص الاستشاري على ترك الدراسة عامة في موضوعها، وحتى في تعريف مصطلحاتها. فلا يكون هناك تحديد للمعنى المقصود للأدوات أو الوسائل التي بواسطة تحديده وتمييزه يتحدد الهدف الرئيسي العام لطموح الزبون، كما يُحقق تحديد الغرض الدقيق من كل معلومة أو تطبيق للدراسة. فكثير من الوسائل والأدوات لها مسمى واحد يدل على معنى واحد ولكنه واسع. ولكن في تطبيقاتها الدقيقة، تقوم هذه الوسائل والأدوات بوظائف متعددة تخدم أغراضا مختلفة قد تكون متباعدة أحيانا. وهذا يوسع غرض الدراسة ليشمل كل التطبيقات والنماذج الناجحة والمجربة مما يسهل مهمة المستشار بعد ذلك في الاستنساخ بلا تمييز للفروق بين مجتمعات أو حالات متنوعة. ويستطيع بهذا سد نقص خبرته وفهمه في هذا المجال، ويكفيه كلفة أجرة استشاري متخصص خارجي. فتحديد الغرض الدقيق للأداة أو الوسيلة سيقود الدراسة ويوجهها لمضائق حرجة وعقد صعبة تستلزم جهدا وعلما وخبرة وذكاء للخروج منها.
وبعد وضع كل الحلول العالمية الواضحة كمقترحات لتنفيذ المشروع، يقوم المستشار ببناء الحجج الداعمة المؤيدة لهذه النتيجة الواسعة. وذلك بالتخير من الإحصائيات الموافقة لها، والدول الناجحة التي جربتها، دون أي ذكر عن التجارب الفاشلة لدول أخرى، أو الحالات الناجحة الشاذة عن النمط العام بتطبيقات وحلول خارجة عن النمط، لأنها عادة تحتاج إلى بحث وفهم واستنباط، ثم النظر في إمكانية كونها مناسبة لهذا البلد. ويقوم المستشار كذلك، فيتلاعب في اختيار الفترات الزمنية وفي الأعوام والأرقام، وفي استخدام لوسائل متنوعة من القياس. فمرة المتوسط الحسابي وأخرى المتحرك. وأحيانا العائد الداخلي وأحيانا العائد الداخلي المتضاعف، وهكذا، دون تقديم مبررات لمنطقية استخدامه لوسيلة قياس دون أخرى. وكتتمة للدراسة، يقوم المستشار المتدرب بجمع - أو نقل- ما هو مشهور أو متداول في دراسات سابقة، عن مشاكل الشركات أو الوزارات أو الثقافات في ذلك البلد.
فالمشروع ولو كانت فكرة المشروع -محل البحث- جديدة عن البلد، فالمشروع لا بد أن يكون ضمن منظومة كبيرة، والمنظومة كلها تعاني من مشاكل مشتركة. فيضع المستشار ما تقع عليه يده من الأحاديث أو الدراسات السابقة حول هذه المشاكل فينسخها في قوالب تصويرية تصميمية بديعة فيجعلها معوقات لنجاح المشروع. وكجانب ديكوري، فقد يقوم مثلا، بجمع آراء «الخبراء المحليين» في بلد المشروع. وما هذا إلا لأنه أمن السؤال عن مدى المصداقية العلمية لهذه الآراء، وكيفية تصنيفهم كخبراء في هذا المجال، وهم محليون لم يتعرضوا لهذا المجال أصلا قط في بلدهم. وبعد ذلك يقوم بحشو الدراسة من المعلومات الخام دون تحليل لها، لتضخيم الدراسة. فبتوظيف المستشار معرفته للعقل الجمعي المسيطر على ثقافة بلد المشروع، وهيمنة هيبة اسمه الاستشاري، جعله يستهين بمن حوله فيتجاهل القاعدة المعروفة في الدول المتطورة. وهي أن كل معلومة يضعها الاستشاري في تقرير أو دراسة يجب أن يكون جاهزا للإجابة عنها. فتراه يحشو الدراسة بهذه المعلومات الخام، ولا يبالي بأن هذه المعلومات الخام - بجانب عدم نفعها- فإنها قد تستخرج أسئلة كثيرة يمكن أن يؤدي نقاشها إلى طرح طريقة أخرى مُعدلة أو مطورة تستلزم الشركة الاستشارية لزيادة في البحث وتجبر المستشارين المتميزين على الانشغال بتنظيرها وتشكيلها. كما يمكن أن تثبت خطأ النتيجة الموضوعة سلفا وتقضي على أحلام الزبون الطموح، ولكن المستشار الأجنبي ضامن لعقل صاحبه. والنتيجة التي تقول بعدم جدوى المشروع والزبون متعلق به، يعني فشل الشركة استشاريا في بلاد العالم الثالث. على عكس سلوك البلاد المتطورة التي ترى أن هذا - إذا كان الفشل مثبتا- يعد نجاحا للشركة الاستشارية قد تستحق عليه علاوة من الربح المتمثل في منع الخسارة التي كانت ستقع.
فالثقافة الغالبة في دول العالم الثالث، أن الدراسة الاستشارية هي لتأييد القناعات المُتشكلة سابقا، وتبيين كيفية تنفيذها. فهذا الغرض الأساسي من الدراسة الاستشارية وليس فحص واختبار هذه القناعات وجدواها أولا.
والنتيجة بعدم نجاح المشروع لا تعني انتهاء حلم صاحبه بتحقيقه، بل هي بداية الحقيقة. فقد تؤدي الدراسة الجادة إلى خطأ هذه القناعات، وتتنبأ بفشل المشاريع المتعلقة بها، أو فشل أشكال منها أو أجزاء. مما يدفع الطموح إلى استكشاف البدائل أو التعمق في الجزء القابل للنجاح منها لتطويره وتحويله إلى طموح مشروع أكبر.
والمشاريع إما أن تكون مادية بحتة أو إنسانية بحتة - أي تعتمد على الثقافة المحلية المسيطرة- أو خليط بينهما. وكل دراسة لمشروع أو قرار وتنتهي دراسته بتطبيق نماذج وتطبيقات مقاربة لدول أخرى، وله علاقة ببعد إنساني أو وضع خاص للدولة المُقلِدة أو المُقلَدة فهذا حكم أولي على فشل الدراسة وعدم مصداقيتها. وعندي شواهد كثيرة من الأزمة المالية حتى على مستوى الدول المتطورة. ولكن الشاهد الذي يستطيع الجميع رؤيته، هو أننا نرى النجاح الباهر للمشاريع المادية البحتة في كثير من دول العالم الثالث، إذا ما توفر التمويل وأُحسن اختيار الاستشاريين وسُلم من الفساد والبيروقراطية السلبية والتنافسية ( فهناك بيروقراطية إيجابية تكاملية). بينما نرى فشل المشاريع التي تعتمد على الجانب الإنساني، (والمقصود هو المجتمع المحلي، لا أن يُجلب المجتمع الأجنبي مع المشروع ). كما نرى أن حجم الفشل في المشروع بمقدار حجم اعتماد المشروع على الجانب الإنساني المحلي. وأخيراً، مئات الآلاف من الدراسات ذات الكلفة الفلكية قامت في العالم العربي لا يوجد مكتب عربي واحد قادر على القيام بنفسه وطنيا، ولو كرر الدراسة آلاف المرات، إلا أن ينسخها نسخا من سابقتها. فهل من عجب في هذا؟ لا عجب في ذلك لمن عرف الحال المسكوت عنها التي فيها يكمن العجب العُجاب.