يتورط كثيرا الموظف المخلص في العمل، باقتراب موعد التقاعد، خاصة ممن يعشق عمله، ويقضي طوال يومه، حتى في بيته، وهو يتابع العمل بشغف، بل إن ذهنه يبقى مشغولاً في قضايا العمل، حتى في أوقات راحته، أو في المناسبات الاجتماعية التي يحضرها... هذا النوع من الموظفين يشعر بأن حياته انتهت، أو كادت أن تنتهي بمجرد الوصول إلى اليوم الأخير في عمله!
هناك موظفون مدمنون، وصل بهم الأمر أن ينهضوا صباحا، بعد تقاعدهم، يرتدون ملابسهم، ويذهبون إلى مقر العمل، يطوفون حوله، يفطرون من المطعم القريب، بحثاً عن الحفاظ على تقاليد يومهم، وعدم الرغبة في كسر هذا التقليد، أو المغامرة في الجديد، وهذا ضد طبيعة الإنسان وفطرته التي تؤمن بالتغيير، وتقوم به!
ففي خطبة إمام وخطيب الحرم المكي الشيخ صالح بن حميد الأخيرة، الكثير من الحكمة والوعي الإنساني، حينما تحدث عن التقاعد، وأنه يجب أن يكون نقلة وتجربة وتغييرا، وليس تعطيل قدرات، ولا نبذ خبرات، وإنما فرصة لإطلاق الطاقات الكامنة التي قيدتها الوظيفة... ويضيف الخطيب بوعي متميز: الموظف إذا ترك الوظيفة لا يترك العمل، والوظيفة مدة نظامية تنتهي، أما العمل والحاجة والكفاءة فتلك باقية ما بقيت القدرة والحياة، ومن الحكمة النظر إلى التقاعد على أنه بوابة يطل منها المرء على ميادين الحياة الفسيحة!
نعم، هذا والله لهو حديث العقل والحكمة، بألا يكف الإنسان عن العمل بانتهاء العمل الوظيفي، بل أن يكتشف كل قدراته ومهاراته وخبراته التي بقيت محبوسة طوال مدة ارتباطه قسريا بالوظيفة، بحثاً عن الاكتفاء المالي.
ففي السنوات الأخيرة، وجدت كثيراً من المتقاعدين الذين انطلقوا في مشروعاتهم الخاصة، محققين أحلامهم المؤجلة، إلى درجة أن كثيراً منهم، شعر بالأسف أنه لم يبادر بالخروج من الوظيفة في زمن مبكر، ولم يعجل بالتقاعد المبكر، على خلاف الذين تقاعدوا قبل عقدين وأكثر من السنوات، الذين لم يبدعوا في أعمال جديدة، بل تحوّل معظمهم إلى عالة على بيته وأسرته، وأصبح بقاؤه في البيت لا يطاق، ما لم يفتح بيت زوجية جديداً، ويبدأ الحياة الأسرية من جديد، وقد ترك أسرته القديمة، وتسبب في تفكك أسرة كان الأحق بأن يكون قائدها وربانها في تحولاتها.
أعتقد أن السنوات الأخيرة للإنسان فيما بعد التقاعد هي سنوات مهمة للغاية، يمكن من خلالها أن يضيف الكثير إلى حياته، وإلى حياة من يحيط به، شريطة أن يؤمن بضرورة التغيير وحتميته، بل إن التغيير إذا كان الإنسان مؤمناً به، قد يكون نقلة جميلة ومؤثرة في حياته، وفي سعادته أيضاً، وسعادة من يحيط به.
كثير من تجارب الناجحين في مختلف مجالات الحياة، خاصة في التجارة، وفي مختلف مجالاتها وأنواعها، هم ممن اتخذ القرار مبكراً، وتركوا الوظيفة، متخذين منعطفاً كبيراً في حياتهم، ليحققوا نجاحاً لافتاً، لم يكونوا ليحققوه، لو استمروا يذهبون بشكل نمطي إلى وظائفهم المملة.
يبقى السؤال المؤرق لدى كثير من المتقاعدين، هل ثمة متسع في العمر للبدء في نشاط ما، وأجيب بحديث للمصطفى صلى الله عليه وسلم: «إن قامت الساعة وفي يد أحدكم فسيلة، فإن استطاع ألا تقوم حتى يغرسها فليغرسها».
ما أجمل الإنسان الذي يعمل حتى آخر لحظة من حياته!