سبحان من يفني الوجود وهو الحي دائم الوجود الذي خلق الموت والحياة ليبلونا أينا أحسن عملاً وقضى بأن {كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ لَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} (88) سورة القصص، فقد هوى كوكب دري من سماء أسرتنا آل الشيخ وعلم فذ من أعلامها البررة، إنه صاحب تلك الشخصية التي يعلو وجهها البشوش الطهر والنقاء والعفاف والتقى والورع.. حسن المعشر طيب الكلام شخصية مهابة من دون تكبر.. تواضعٌ من غير ضعف سمح الأخلاق نعم إنها مهابة باحترام منحها خالقه سبحانه جل جلاله فوضع في قلوب الناس محبته وقبوله، فكل من عرفه وجلس معه يكنون له المودة والتقدير، وكان الأب الحنون والرجل الكريم والمعلم المربي الفاضل والقيادي الفذ والإداري الناجح والشيخ الوقور والحافظ لكتاب الله.. ذلكم هو عمي ووالدي معالي الشيخ الجليل عبد المحسن بن عبد الله بن علي آل الشيخ الذي ولد في الرياض عام 1340هـ قدّس الله روحه وأنار قبره وجعله روضة من رياض الجنة اللهم آمين، جمع بين السمت والحكمة وقوة الشخصية من غير تصلف ولا تجبر، فنال احترام الناس ومحبتهم لا يُجامل ولا يُداهن في الحق غيور على دين الله ومحارم شرعه شديد الغضب إذا انتهكت محارم الله أو رأى منكراً فيغضب لله ولرسوله ولدينه ويظهر ذلك جلياً على ملامح وجهه الكريم، حريص كل الحرص على توجيه أبنائه وأهل بيته بالصلاة في وقتها جماعة في المسجد، شديد عليهم في ذلك وكان لا يخاف في الله لومة لائم صادق السريرة طاهر القلب سليم الصدر نقي النفس وافي الخصال، ولا أزكيه على الله.. لا تسمع منه إلا الحكمة والنصيحة وما يدخل السرور على قلبك ونفسك وكان حسن المظهر والاهتمام به ورث عن والديه - رحمهما الله - الصلاح والاستقامة وعفة اللسان واليد خلفَ والده الشيخ عبد الله بن علي بن عبد العزيز آل الشيخ - رحمه الله - إمامة مسجد آل حماد والمسمى بمسجد الأمير ناصر بن عبد العزيز في حلة آل حماد بدخنة وسط الرياض سنين طويلة، وعمل قبل فتح المعهد العلمي في بدايات عمره كاتباً فيما يُسمى قديماً بالعمالة في عهد الملك عبد العزيز - طيَّب الله - ثراه سنة 1360هـ، وهي لجنة خرص زكاة النخيل والثمار والمواشي التي كانت تجوب مناطق المملكة على ظهور الجمال، كما كان ينتدب لتوزيع صدقات الدولة ومساعداتها لبعض المناطق وعمل عضواً في هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر (النواب)، وقد التحق بالكتاتيب في بدايات تعلمهودرس على بعض مشايخ زمانه ودرس مبادئ علم التوحيد والعقيدة وسائر علوم الشريعة، وذلك في حِلق المشايخ في المساجد وحفظ القرآن الكريم عن ظهر قلب في سن مبكرة.
كان - رحمه الله - باراً بوالديه وإخوته.. التحق بالمعهد العلمي بعد افتتاحه في الرياض أوائل عام 1370هـ، حيث كان من أوائل الملتحقين به وتخرج منه عام 1374هـ، ثم واصل تعليمه الجامعي حتى تخرج من كلية الشريعة عام 1378هـ، وكان - يرحمه الله - جميل الخط والأسلوب وطلب منه مفتي الديار السعودية سماحة الشيخ محمد بن إبراهيم آل الشيخ - رحمه الله - العمل بسلك القضاء فاعتذر، فكُلف بالعمل مدرساً في المعهد العلمي بالرياض لمدة ثلاث سنوات، ثم أصبح مفتشاً في الرئاسة العامة للكليات والمعاهد العلمية جامعة الإمام محمد بن سعود حالياً حتى اختاره صاحب السمو الملكي الأمير سلطان بن عبد العزيز - طيّب الله ثراه - ليكون مديراً عاماً للشؤون الدينية بوزارة الدفاع والطيران، وكان ذلك في عهد الملك فيصل بن عبد العزيز - رحمه الله -، وذلك في أواسط عام 1391هـ وعين برتبة عقيد كرتبة عسكرية، لكنه عمل مدنياً فلم يرتدِ الزي العسكري بموافقة من المقام السامي، فأسس الإدارة العامة للشؤون الدينية بالقوات العربية السعودية المسلحة فزرع نواتها الأولى في جهاز الوزارة التي أتت أكلها وثمارها النافعة وما زالت جهوده ملموسة حتى اليوم بتوفيق الله ثم بفضل دعم سمو الأمير سلطان الذي كان له الفضل - بعد الله - في تطور تلك الإدارة، فتضافرت جهود الأمير مع الشيخ حتى أصبحت إدارة لها فروعها بجهاز الوزارة في جميع مناطق المملكة، فعُنيت تلك الإدارة بجميع منسوبي الوزارة من ضباط وصف ضباط وجنود وأفراد وموظفين توجيهاً ونصحاً وإرشاداً، فأنشأت المساجد في المدن العسكرية والمستشفيات التابعة للوزارة واختارت لها الأئمة وخطباء الجوامع والمؤذنين وشجعوا منسوبي الوزارة على حفظ كتاب الله، فكانت جائزة الأمير سلطان بن عبد العزيز لحفظ القرآن الكريم التي تشرف عليها الإدارة، كما قامت إدارة الشؤون الدينية بطباعة العديد من الكتب الدينية والمؤلفات الفقهية والمصاحف الشريفة وتوزيعها بالمجان على طلبة العلم وعلى أفرع الوزارة وللإدارة الدينية مساهماتها الفعالة في المشاركة في أعمال الحج مع بقية أجهزة الوزارة والجهات الحكومية الأخرى، وكان معالي الشيخ - رحمه الله - يشرف إشرافاً مباشراً بنفسه على كل تلك الجهود ويطلع سمو وزير الدفاع الأمير سلطان - رحمه الله - وسمو نائبه على كل مسعى يقوم به فكسب بفضل الله رضا المسؤولين عن أعماله الجليلة وثنائهم عليها فجزاه الله خير الجزاء،ومن ناحية أخرى اختاره سمو الأمير سلطان أن يكون إماماً له ليؤم بسموه في صلاة التراويح والقيام في شهر رمضان المبارك من كل عام، حيث كان إلى جانب حفظه لكتاب الله العزيز حسن الصوت خاشعاً حتى طلب الإعفاء لكبره ومرضه، وبقي مديراً عاماً للشؤون الدينية حتى وصل إلى رتبة لواء، ثم أُحيل إلى التقاعد بناء على طلبه بعد أن أمضى ما يقرب من أربع وعشرين سنة في وزارة الدفاع والطيران ولكن لحب الأمير سلطان وثقته الكبيرة في الشيخ، فقد رشحه أن يكون مستشاراً في مكتب سموه للشؤون الدينية بالمرتبة الممتازة، ومددت خدماته مرات عديد بتوصية من سموه الذي كان يقدر الشيخ ويجله وله في نفسه منزلة كبيرة، تغمدهما الله بواسع رحمته ورضوانه وجمعهما في الفردوس الأعلى، وبقي في منصبه حتى قبل وفاة سمو الأمير سلطان بقليل.
وعلى صعيد التكريم حصل معاليه على العديد من الأوسمة منها وسام الملك عبد العزيز من الدرجة الثالثة ووسام الملك فيصل من الدرجة الثانية وميدالية التقدير العسكري من الدرجة الأولى ونوط تحرير الكويت، وقد كانت له مساهمات فعّالة في نصح الضباط والجنود والأفراد في بعض الأزمات وحثهم على الصبر والجهاد في سبيل الدفاع عن الدين وعن الوطن ومقدساته، وبعد معاناة مع المرض وغيبوبة دامت أشهراً أسلمت روحه الطاهرة لباريها فجر الأربعاء 1-7-1435هـ، وقد ناهز عمره التسعين عاماً وصلى على جثمانه الطاهر بعد صلاة عصر ذلك اليوم جمعٌ غفير يتقدمهم صاحب السمو الملكي الأمير خالد بن بندر بن عبد العزيز أمير منطقة الرياض - حفظه الله -، ودُفن بعدها في مقبرة أم الحمام في يوم شهد نزول قطرات من الرحمات، أسأل الله تعالى أن يجعل ما أنزله علينا متاعاً وبلاغاً إلى حين، وأن يجعلها علينا وعلى قبور موتانا سقيا رحمة.
أعلم يا عمي ويا صنو أبي كم لي من منزلة خاصة في قلبك، وكم كان يسعدني انبساطك ورضاك عني لأي عمل أقوم به في خدمتك والذي كان نابعاً من قلبي لك فكان لرحيلك وقعه الكبير الذي أوجع قلبي، فرحمة الله عليك ورضوانه ولا أقول إلا ما يُرضي ربي: {إِنَّا لِلّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعونَ}، وإذا أُعزي والدي سيدي الشيخ محمد وعمي الشيخ علي وعمتي نورة وإخوتي أبناء عمي الأفاضل عبد العزيز ومحمد وعبد الله وأحمد وعبد الملك وعبد الإله وأخواتي سارة وهند وجواهر ووالدتنا الغالية أم محمد منيرة بنت عبد الله بن غنام - متعهم الله بالصحة والعافية -، وكافة أبناء وبنات عائلتي وأسرتي آل الشيخ الكرام وكل محبيه في مصابنا الجلل، فأحسن الله عزاء الجميع وجبر مصيبتنا ورحم فقيدنا الغالي رحمة واسعة وأسكنه فسيح جناته، والحمد لله على كل حال في السراء والضراء، وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.